أنور ود الحوش.. شيوعي نقي ومناضل حتى الرمق الأخير!!
كان يمشي على الأرض بخُطى الحالمين… فرحل سريعاً!!
بكاه: حسين سعد
بقلوب يعتصرها الألم، وعيونٍ أغرقتها الدموع، ودعنا الزميل الراكز (أنور ود الحوش)، الذي ترجل عن صهوة الحياة بعد صراعٍ مريرٍ مع مرض السرطان، صراع خاضه بنفس الجسارة التي خاض بها معاركه الطويلة في سبيل الحرية والعدالة الاجتماعية ، وتحقيق الدولة المدنية التي حلم بها وعمل لها كما حزبه الشيوعي ، كان الراحل (ود الحوش) من الذين وهبوا حياتهم كاملة لقضية الإنسان، عرفته السجون والمعتقلات، كما عرفته الشوارع والمظاهرات والمنابر، لم يضعف، لم يساوم، ولم يتنازل حمل راية الحزب الشيوعي منذ شبابه الأول، وسار بها متحدياً القمع، والإعتقال، والتعذيب، وعقوداً من الإقصاء، كان وجهه مألوفة خلف قضبان الزنازين، ورفيقه الدائم كان حلمه بوطن لا يظلم فيه أحد، أو كتاباً أو قصيدة لشاعر الشعب الراحل محجوب شريف أو قصيدة للراحل محمد الحسن سالم حميد ، قاوم المرض كما قاوم الطغيان — بصبر المحارب الذي لا يخشى النهاية، وبقلب المؤمن بوطنٍ حرٍّ يسع الجميع، رحل رفيقنا في صمت حزين، لكنه ترك صوته في كل زاوية من زوايا الحزب، في أرشيف صور المظاهرات، في ذاكرة الرفاق، وفي جدران الزنازين التي صمدت معه، ودعناه إلى مثواه الأخير كما ودعنا كثيراً من رفاق دربه، ونعاه الوطن الذي أحبَّه ولم يخذله في معركته الكبرى — معركة الوعي والتنوير.
من يحرس الحلم؟
ورغم كل ما مرّ به من سجونٍ وأمراضٍ وتضييق، لم يكن أقسى على قلب ( ود الحوش) من رؤية وطنه يتمزق أمام عينيه في سنواته الأخيرة، عاش أيام الحرب في السودان بكامل ألمه، قبل سفره مؤخراً الي القاهرة للعلاج كان يري الحرب الكارثية كأنها خنجرٌ في خاصرته، ليس فقط لأن البيوت تهدمت والناس شُرِّدوا، بل لأن كل أحلامه التي أفنى عمره من أجلها كانت تُذبح واحدة تلو الأخرى، المدنيين من النساء والأطفال وكبار السن يقتلوا ويشردوا من منازلهم ، وطرفي الحرب وحلفائهم (ينهشوا في البلد) كان قلبه ينزف وهو يرى الفوضى والدمار تبتلع مدن الوطن، ويرى شعارات الدولة المدنية (تُدهس) تحت أقدام البنادق، لقد كان (ود الحوش) أحد المؤمنين العميقين بالدولة المدنية الديمقراطية، وكان من أوائل من حملوا هذا الحلم حتى قبل أن يُصبح شعاراً متداولاً في الساحات، كان يحلم بوطن تُحترم فيه الكرامة الإنسانية، تُفصل فيه السلطات، يُحاكم فيه القتلة، وتُرفع فيه قيمة العامل والمزارع والمثقّف، لقد سعي (ود الحوش) سعى بكل ما يملك لترسيخ الوعي المدني في صفوف الشباب، في لجان المقاومة، في التنظيمات النقابية، وكان يرى في ثورة ديسمبر بداية طريق، لا نهايته، لكن الحرب قطعته، فجعلته يشعر، وكأن السنوات الطويلة من التضحيات قد وئدت دون أن ترى النور، وفي أشهره الأخيرة، وهو بين جلسات العلاج ووطأة الضعف، لم يكن يسأل عن صحته، بل كان يسأل حال (الناس كل الناس) وكيف أثرت عليهم الحرب الكارثية ، كان يكتب عبر صفحته في الفيس بوك :عن تلقيه لجرعة العلاج مؤكداً إنه بمعنويات عالية ، كما كان يرسل لي في الماسنجر (أزيك يا حسين) يطلبي مني مده بالأخبار والمعلومات عن السودان، كانت روحه معلّقة بالشوارع التي لا تزال تقاوم بصفوف الطوابير أمام التكايا والمطابخ لاجساد هزيلة أضعفتها الحرب بالجوع والمرض ، وكانت الشوارع التي لا تخون تقاوم أيضا هدير الأليات العسكرية ، وزخات رصاصها الطائش الذي يصيب الناس والجدران والبنايات الأسمنتية التي تحولت إلي ركام، ودعنا (ود الحوش) قبل أن يتحقق ما انتظره، رحل وفي صدره غصّة، أن الوطن الذي قاتل من أجله ما زال في الأسر، وما زال يحترق لكننا نعلم، يا (رفيق)، أن الحلم لا يموت بموت صاحبه، سنواصل النضال ، سنبني الدولة المدنية التي كنت ترسمها في دفاترك، سنحفرها في جدران الخرطوم، في حقول الجزيرة التي لم تشتعل قمحاً وقطناً وتمني ، في قري ومدن دارفور الجريحة ، وفي رمال كردفان الكبري التي تلطخت بالدماء ،في تراب القضارف ، في مدارس عطبرة والسكة حديد تهز وترز ، وفي سواقي الشمالية ونهر اللنيل ، وفي جبال التكا وتوتيل ، وفي طوكر والجنينة وفي سنجة الجريحة ، وفي سنار والتاريخ بدأ من هنا ، وكذلك في أصوات الأطفال النازحين الذين لم يلتقوك، لكن سيكبرون وهم يسمعون باسمك كنموذج لرجل لم يتخلَّ، حتى حين كانت الدنيا كلها تخذله.
غياب بحجم وطن:
ومن بين محطاته الكثيرة التي تشهد على إلتزامه ووفائه، لا يمكننا أن نمرّ دون أن نذكر مشاركته المؤثرة في تأبين الراحلة فاطمة أحمد إبراهيم التي كانت رفيقة الدرب، وقدوته في الصمود والإيمان بعدالة قضاية الطبقة العاملة ، كنت حينها رئيساً للجنة الإعلام في التأبين بالعباسية أمدرمان ، وكان (ود الحوش) رئيس اللجنة المالية كان يعتبر التكليف ليس مجرد (مهمة) ينفذها فقط بل كان يري ذلك واجب أخلاقي ، ووفاءً لمن فتحت له أبواب النضال حين كان شاباً يحلم بعدالة لم تأتِ بعد، تابع كل صغيرة وكبيرة بنفسه — كان يحمل دفتر صغير يكتب فيه المطلوبات كلها كان عمي صديق يوسف يوجهني بالذهاب الي (ود الحوش) لنيل معينات عمل اللجنة الاعلامية وكان (ود الحوش) يتابع تفاصيل التشكيليين والتشكيليات الذي زينوا التأبين برسومات ولافتات بهية (ود الحوش) راجع المطلوبات (بنداً بنداً)، وأصر أن تكون كل تفاصيل الصرف موثقة بشفافية صارمة، لم يكن يسمح بأي مجاملة أو تهاون، تأبين (فاطمة) لم يكن مجرد وداعٍ لرمز، بل كان لحظة تجلّت فيها كل خصال ( ود الحوش) الوفاء، الإنضباط، الإحساس العميق بالمسؤولية، والإحترام الصارم لقيم الحزب، ولكرامة رفاقه — أحياءً أو راحلين، لقد أعطى للتأبين معنى، وللمسؤولية شكلاً، وللرحيل كرامة.
مع صلاح ركب بالهاتف:
مساء اليوم وفي ذات يوم رحيل (ود الحوش)، رن هاتفي فرفعته بتردد، فوجد المتصل عبر الواتساب (صلاح ركب) وأنا أحاول أن أجد الكلمات التي لا تكفي أمام الموت، كان صوت صديقي في الطرف الآخر خافتًا، ممزوجًا بشهقة خفية، كأن الحزن قد جلس على صدره، وأغلق عليه الأبواب، قلت له بصوتٍ منخفض خالص التعازي في الرحيل المر للزميل ( ود الحوش) سكت قليلاً ثم خرج صوت صلاح ركب مكسورًا، متقطّعًا بين الكلمات، كأن الحروف تمشي على زجاج مكسور( أنور) ما كان زول عادي كان شيوعيًا بمعنى الكلمة والإنسانية، كان فيهو نبض الوطن، أغلقت الهاتف بعد أن تركت ( صلاح ركب) يسكب بعضًا من حزنه ، وأنا أكتب في هذا النعي : (أنور ود الحوش) لم يكن مجرد أسم، كان مبدأ، وكان إبتسامة، وكان نكتة ،وكان صوتًا في زمن عزّت فيه الأصوات، نكتبه والقلب مثقوب، والعيون لا تجف، نكتبه لا نرثيه ، بل نوثق سيرة مناضل رخلق من نار لا تنطفئ، وضمير لا يساوم ، نكتب لوداعه أشجع زميل وأكثرهم صبراً علي قسوة السجون وضراوة المرض زميل إختار الحياة في الخطر ، علي ان يعيش ذليلاً في سلام الزيف ، والمحاصصات لم يكن مجرد عضو في الحزب الشيوعي — بل كان من تلك القامات التي تشكّلت من صلابة المبدأ، وشجاعة الفعل، كان أول من يدخل المظاهرة، وآخر من يغادرها، لم يكن يهتف فقط، بل كان يُربّي، ينظم، ويحضن الخائفين من بطش الأجهزة ، حين إنقضَّت الحركة الاسلامية على الديمقراطية الثالثة، لم يهرب كان في مواجهة العاصفة، في الصفوف الأمامية، بل وفي تلك الزنازين ، ظل صامداً، رابط الجأش، يبتسم لجلاده، ويواسي رفاقه وقد حكي ود الحوش تجربته في التلفزيون في برنامج بيوت الأشباح ، لقد كان كان صموده في المعتقل ليس مجرد بطولة لحظة، بل ملحمة صبر متواصلة، عُذّب، جُوِّع، حُرِم من الزيارة، من الدواء، من الهواء النقي، لكنه لم ينكسر، ثم جاء السرطان، متسللاً إلى جسده الذي أرهقته السجون لكن حتى أمام المرض، ظل واقفاً، وبين ألم الجسد، ووخزات الكيماوي، يتابع أخبار السودان، ويواسي من هو أضعف منه، لم يكن الموت مرعباً له كان يتعامل معه كرفيق عابر، يعرف أن اسمه سيبقى بين الجدران التي هتف فيها، والكتب التي قرأها خلف القضبان، (ود الحوش) لم يمت لانه لم يعش من أجل نفسه فقط ، مات جسده لكن بقية شجاعته درساً، نم قرير العين، يارفيق، فقد أديت ما عليك، سنحمل مشاعلك من بعدك، ونواصل المسير حتى تتحقق أحلامك، وحتى نصل إلى فجر الوطن الحر والديمقراطي الذي أفنيت حياتك من أجله، نم مطمئناً، فقد تركت فينا جذوة لن تنطفئ؟.