الإستقرار المؤجل: المحاصصة.. إطالة أمد الأزمات بالسودان (3)
تحليل: حسين سعد
نواصل في هذا التحليل تأثير المحاصصة على مؤسسات الدولة تُعد المحاصصة، بجميع أشكالها، من أبرز العوامل التي ساهمت في إضعاف مؤسسات الدولة السودانية وتآكل بنيتها الوظيفية، فعندما يُصبح مبدأ (الإنتماء) بديلاً عن (الكفاءة)، تتحوّل مؤسسات الدولة من أدوات خدمة عامة إلى أدوات للمحسوبية والولاءات السياسية، مما ينعكس بشكل مباشر على الأداء، الاستقلالية، والشرعية، وتهميش الكفاءات والخبرات لصالح الموالين سياسيًا أو جهويًا أو عسكريًا، وهذا ما شهدته فترات مختلفة من الحكم، خاصة خلال المرحلة الإنتقالية، وعقب إنقلاب أكتوبر حين تحوّلت الوزارات، والمؤسسات الحيوية، وحتى البعثات الدبلوماسية، إلى حصص موزعة على الأحزاب أو الحركات المسلحة أو المكونات العسكرية، النتيجة كانت إدارات عاجزة، خطط غائبة، ومؤسسات بلا رؤية ولا فاعلية.
تسييس الخدمة المدنية:
كان للسودان تقليد إداري قوي في الخدمة المدنية خلال النصف الأول من القرن العشرين، لكن مع سيطرة المحاصصات، بدأ التعيين في الوظائف القيادية والوسيطة يتم على أسس الولاء السياسي أو الانتماء الجهوي، ما أفقد الجهاز البيروقراطي إستقلاله وفاعليته بل، تحوّلت العديد من المؤسسات إلى (إقطاعات) حزبية أو جهوية أوعسكرية، تتصارع فيها الولاءات على حساب المصلحة العامة، كما تضعف المحاصصة مؤسسات العدالة والرقابة، ويصبح من الصعب – بل أحيانًا من المستحيل – مساءلة أي مسؤول ينتمي إلى طرف من أطراف المحاصصة، فكل طرف يحمي منسوبيه، ويعتبر أي مساءلة إستهدافًا سياسياً.،وبهذا، تعطّلت آليات المحاسبة والمراقبة، بما فيها القضاء، الأجهزة الرقابية، والمفوضيات المستقلة، وأدى ذلك إلى تفشي الفساد، وضعف تنفيذ القانون، وزيادة حالة الإفلات من العقاب، وتصطدم كل محاولة لإصلاح مؤسسات الدولة بمصالح الأطراف المستفيدة من الوضع القائم، فالتحوّل نحو مؤسسات فعّالة وموحّدة يتطلب إزاحة عناصر كثيرة جاءت عبر المحاصصة، ما يجعل هذه الأطراف تقاوم التغيير بشدة، وتُفشل أي مبادرات للإصلاح. وهكذا تبقى الدولة رهينة لنظام (هش)، غير قادر على إتخاذ قرارات إستراتيجية أو بناء مؤسسات مستقلة.
متعددة ومتصارعة:
عندما تتوزع مؤسسات الدولة بين قوى متعددة متصارعة، يتشتت القرار السياسي وتُصاب الدولة بالشلل، وهذا ما حدث في السودان بعد الثورة، حيث أصبحت بعض المؤسسات تتبع للمدنيين، وأخرى للعسكريين، وثالثة للحركات المسلحة، ما أدّى إلى تضارب الصلاحيات، وتكرار القرارات، وفشل التنسيق بين مؤسسات الحكم وفي النهاية، ضاعت هيبة الدولة وتراجعت قدرتها على إدارة الملفات الكبرى كالسلام، الأمن، الاقتصاد، والعلاقات الخارجية، لقد ضربت المحاصصة بجذورها في صميم الدولة السودانية، مفرغة مؤسساتها من مضمونها، ومحولة إياها إلى أدوات هشّة لا تعبّر عن إرادة وطنية موحدة، وهذا ما مهّد الطريق لفوضى عارمة أدّت في نهاية المطاف إلى الحرب الأهلية الأخيرة، ونري إن المحاصصة كعامل زعزعة للاستقرار رغم ما تُروّج له بعض الأطراف من أن المحاصصة تساهم في تحقيق (العدالة التمثيلية) و(الشمول السياسي)، إلا أن التجربة السودانية أثبتت أن هذه الآلية، حين لا تُبنى على قواعد وطنية متينة، تُفضي إلى نتيجة عكسية تمامًا: وهي تفتيت الدولة، وتغذية النزاعات، وزعزعة الإستقرار على المستويات كافة.
شراكة معطوبة:
تجربة السودان أثبتت إن المحاصصة لم تنشأ من توافقات وطنية شاملة، بل غالبًا من صفقات إضطرارية بين أطراف متنازعة، تسعى كل منها لضمان مصالحها لا لبناء دولة، لذلك كانت كل إتفاقيات السلام (مؤقتة وهشّة )، تنهار سريعًا عند أول تعارض مصالح، مثال ذلك الشراكة بين المكون العسكري والمدني بعد الثورة، التي سرعان ما إنهارت، وأدت إلى انقلاب 25 أكتوبر 2021، ثم إلى إنفجار الحرب بين الجيش والدعم السريع في أبريل 2023م وإعادة إنتاج النزاع بدلًا من معالجته فبدلًا من أن تكون المحاصصة أداة لحل النزاعات، غالبًا ما تؤدي إلى تكريسها، فحين تُمنح مجموعة مسلحة حصة في السلطة كنوع من الترضية، فإن الجماعات الأخرى – التي لم تُشارك في الاتفاق – تشعر بالتهميش، وتسعى بدورها إلى حمل السلاح للحصول على (نصيبها). النموزج الصارخ الصراع علي السلطة في حكومة بورتسودان ،وهكذا تدخل البلاد في دورة لا تنتهي من الصراعات، حيث تصبح القوة المسلحة شرطًا للمشاركة السياسية، فضلاً عن تغذية القبلية والجهوية الضيقة والإنقسامات المجتمعية عندما يُقسّم الحكم على أسس جهوية أو إثنية، فإن ذلك يعزز الولاء للقبيلة أو الإقليم على حساب الولاء للوطن، في السودان، أدى هذا إلى تراجع الشعور بالإنتماء للدولة، وإرتفاع الأصوات الداعية للفيدرالية أو حتى الانفصال في بعض الأقاليم، كما تفاقمت الإنقسامات بين مكونات المجتمع، وإنعكس ذلك في شكل عنف مجتمعي، وصراعات مسلحة بين القبائل، خاصة في دارفور والنيل الأزرق والشرق والجزيرة والشمالية ونهر النيل وظهور لافتات (قبلية) والخطاء الكبير نموزجه سلام المسارات في إتفاق جوبا.
تأكل ثقة المواطن:
توزيع السلطة والموارد على جماعات مسلحة دون إخضاعها لسلطة الدولة المركزية يؤدي إلى تعدد مراكز القرار العسكري، وهذا ما حدث في السودان مع وجود قوات الدعم السريع، وقوات حركات الكفاح المسلح،ودرع السودان إلى جانب الجيش، وبدلاً من دمجها في منظومة وطنية واحدة، تحولت هذه القوات إلى أدوات للصراع على النفوذ، ما فجّر صراعًا داميًا يصعب السيطرة عليه، وهدد كيان الدولة ذاته، الأمر الذي أدي إلي تآكل ثقة المواطن في العملية السياسية مع تكرار الفشل الناتج عن نظام المحاصصة، بدأ المواطن السوداني يفقد ثقته في جدوى العملية السياسية برمتها، فالشعب الذي خرج في ثورة سلمية يطالب بدولة مدنية عادلة، وجد نفسه في ظل نظام شراكة بين السلاح والمصالح الضيقة، دون تحسين ملموس في حياته اليومية. هذا الإحباط الشعبي يُعد قنبلة موقوتة تهدد بإنفجار إجتماعي في أي لحظة، عموماً إن المحاصصة ليست مجرد خلل في آليات الحكم، بل هي تهديد حقيقي للاستقرار الوطني، هي تعبير عن غياب المشروع الوطني الجامع، وتكريس لحكم توافقي هشّ لا يصمد أمام التحديات، أمثلة واقعية من التجربة السودانية لفهم الأثر العملي للمحاصصات على الإستقرار السياسي والمؤسسي في السودان، لا بد من التوقف عند عدد من المحطات المفصلية التي جسّدت كيف تحوّلت هذه الآلية من أداة (ترضية سياسية) إلى مصدر مباشر للفشل الحكومي، والانقسام، وحتى العنف. فيما يلي أبرز الأمثلة التي تعكس طبيعة هذا المسار. (يتبع)