الحكومة الانتقالية.. أزمات خانقة وإرادة للعبور (27)
بقلم: حسين سعد
وفي كتابه تقييم التجربة الديموقراطية الثالثة في السودان يقول الاستاذ محمد علي جادين أنه بانقلاب 3 يونيو 1989 دخل السودان من جديد نفق الديكتاتورية وحكم البطش والقمع والارهاب باسم القوات المسلحة والشعارات العزيزة على شعبه وفي ذلك يقول الصادق المهدي (لقفد عملت على عقد تحالف اساسي بين كيان الانصار والاخوان المسلمون في السودان لتحقيق توجه اسلامي سوداني عريض بوسائل شعبية وديموقراطية وقام التحالف وحقق بعض اهدافه ولكنه انتكس بسبب مشروع نميري الاسلامي فنحن رفضناه وهم قبلوه وتحمسو له ورغم هذا الانتكاس استأنفنا التحالف في فترة الديموقراطية الثالثة ولكنهم أطاحو به عندما شهرو السلاح علينا وإستولوا على السلطة وانفردو بها عازلين كل القوى الوطنية والاسلامية الاخرى وأقامو نظاما حزبيا فوقيا وقهريا ) فهل يعني ذلك فشل التجربة الديموقراطية في السودان ام ان ما حدث هو تأمر فئات سياسية وإجتماعية محددة استهدف اجهاض التجربة وقطع الطريق على عملية السلام .وبذلك نقول ان التجربة الديموقراطية الثالثة كانت قاصرة ولم تتمكن من الاشتفادة من دروس وخبرات التجارب السابقة ويتمثل ذلك في الملاحظات التالية :
1- انها لم تتمكن من الاستفادة من دروس التجارب السابقة في اتجاه استيعاب التنظيمات السياسية والاجتماعية المختلفة في المؤسسة النيابية بشكل متوازن يعكس حقيقة دور التنظيمات في الحياة العامة وتوزان القوى في المجتمع وضرورات حركة التطور الوطني لبناء سودان ديموقراطي موحد ومستقل وفاعل في محيطه العربي والافريقي ويرجع ذلك بشكل رئيسي الى عجز مؤسسات الفترة الانتقالية عن تحقيق مهامها المحددة في ميثاق الانتفاضة لذلك كانت النتيجة عودة احزاب القوى المهيمنة التقليدية الى كراسي الحكم من جديد بسبب قانون رجعي وتقليدي ومتخلف يقوم على اساس الصوت الواحد اما قوى الانتفاضة السياسية والنقابية القوى الحديثة التي تحملت أعباء النضال ضد الحكم الديكتاتوري وإسقاطه و استعادة الديموقراطية فقد وجدت نفسها بعيدة عن مراكز السلطة نواصل نضالها في مواجهة الفئات الحاكمة من اجل الحياة الحرة الكريمة واستكمال انجاز اهداف الانتفاضة .
2- ان ممارسات احزاب القوى المهيمنة خلال التجارب الديموقراطية السابقة عموما كانت مليئة بالممارسات الانتهازية وغير المبدئية فهي دوما تتردد وتتلكأ وتعجز عن تنفيذ برامجها التي تطرحها أثناء معركة الانتخابات أو عند وصولها الى كراسي الحكم وخلال التجربة الديموقراطية الثالثة بالتحديد طرحت برامج إصلاحية في إطار البينان الرأسمالي التبعي المتخلف ولكنها ترددت في تنفيذها وتجاهلت حاجات جماهير الشعب وضرورات مواجهة الازمة الوطنية الشاملة التي تعيشها البالد , فبرامج الحكومة الائتلافية الاولى والثانيه لم يكن ينقصها وضوح الرؤية بقدر ما كانت تنقصها المصداقيه وربط القول بالعمل .
3- ظلت بعض قيادات احزاب القوى المهيمنة التقليدية تتمشدق بشعارات الديموقراطية الليبرالية المستمدة من النموذج البريطاني والموروثة من دستور الحكم الذاتي 54\1956 في مواجهة قوى الحركة الجماهرية الديموقراطية وقوى المعارضة السودانية كما حدث اثناء انتفاضة ديسمبر 1988 وغيرها وهو تمشدق مردود لان الديموقراطية الليبرالية في السودان تفتقد اساسها الاقتصادي الاجتماعي المرتبط بالثورة البرجوازية والنظام الرأسمالي الناجز لذلك ظلت هذه الاحزاب تضيق بالحريات العامة وتعمل على تقييدها خوفا من قوى المعارضة الشعبية ودفاعا عن مصالحها الضيقة .
4- ان الممارسة السياسية في التجارب السابقة بشكل عام وفي التجربة اليموقراطية الثالثة بشكل خاص تعكس نزوعا قويا وسط احزاب القوى المهيمنة لتقييد النشاط الحزبي والنقابي والصحفي وذلك بسبب ضيق هذه الاحزاب بالديموقراطية وتبرمها من المعارضة والرأي والاخر لذلك ظلت بإستمرار تتردد في تصفية قوانين الانظمة العسكرية المقيدة للحريات العامة والمعادية للديموقراطية نفسها بل عملت على تعديل الدستور نفسه بهدف تقييد الحريات العامة ووضع اجراءات الدولة فوق القانون وبالتالي اقامة دولة ديكتاتورية مدنية ومع هذها التوجه العام تعكس الممارسة العملية وجود ثلاثة تيارات وسط هذه الاحزاب :
أ- تيار مستنير ومتمسك بالديموقراطي والحريات العامة ويعمل على التفاعل مع الحركة الجماهرية الديمواقراطية والاحزاب اليسارية والتقدمية في اطار المصالح الوطنية العليا والبنيان الاقتصادي الاجتماعي القائم وتمثل هذا التيار خلال الفترة الديموقراطية الثالثة في حزبي الامة والاتحادي الديموقراطي التي لعبت دورا هاما كانت له تأثيراته في المجرى العام لحركة الصراع السياسي والاجتماعي في البلاد كما سبق ان شرحنا .
ب- تيار يتجه الى تقييد الحريات والنشاط الحزبي والنقابي والصحفي مع المحافظة على الاطار الشكلي للنظام الديموقراطي وتمثل هذا التيار في محاولات تعديل الدستور والنظام وتنظيم النشاط الحزبي والنقابي والصحفي تحت تبريرات مختلفة وبرزبشكل واضح في اواسط قيادات حزب الامة .
ج- تيار يتجه الى اقامة ديكتاتوية مدنية مكشوفة وتمثله الواضح في فئات الرأسمالية الطفيلية التجارية والمصرفية التي نمت وتطورت في ظل النظم الديكتاتورية وها التيار يمثل المصدر الرئيسي للانقلابات العسكرية قي السودان خاصة إنقلاب 30 يونيو 1989 وبرز بشكل واضح في ممارسات الجبهة الاسلامية وحكومة الوفاق الخاصة بتصفية قيادات الخدمة المدنية وانتهاك استقلال القضاء وتقييد الحريات العامة كما وضح أيضا في مشروعها لقانون الصحافة والمطبوعات والقانون الجنائي الذي مثل نقطة انطلاقها لاقامة نظام ديكتاتوري تحت غطاء الاسلام وشريعته السمحاء .
ولكن هل يعني ان نكفر بالديموقراطية والحريات العامة والحقوق الاساسية للمواطن ؟؟ والواقع ان حيثيات التجربة الديموقراطية الثالثة والتجارب السابقة عموما تؤكد اهمية الديموقراطية لمواجهة قضايا البناء الوطني في السودان واذا كان عصرنا الراهن يفرض التوجه لبناء النظم السياسية على ركائز ديموقراطية تقوم على اختيار الشعب ومشاركته الفعالة في تقرير مصيره في اطار الفصل بين السلطات وسيادة حكم القانون واحترام التعددية السياسية والثقافية التداول السلمي للسلطة وضمان الحريات العامة والحقوق الاساسية لكافة المواطنين دون تمييز فان الحاجة الى ذلك في السودان ترتبط بالاضافة الى ذلك بضرورات تطوره الاقتصادي والاجتماعي وتتمثل أهم هذه الضرورات في الاتي :
1- واقع التمايز الثقافي والاثني والتاريخي بين الشمال بهويته العربية الاسلامية والجنوب بهويته ثقافاته الافريقية ودياناته المسيحية والتقليدية وهو واقع موضوعي افرزته عوامل تاريخية عديدة والاعتراف به حقيقة وواقع يفرض الديموقراطية كإطار وحيد للمحافظة على الوحدة الوطنية وتعزيزها وتأكيد حق المجموعات الوطنية في المحافظة على ثقافاتها وتطويرها وفي التفاعل الطوعي والايجابي فيما بينها اطار سودان موحد وعلى هدى تجاربها في التعايش والتفاعل فيما بينها طوال تاريخها في هذه الارض فكما يقول الشاعر المرحوم صلاح احمد ابراهيم ( نحن في السودان عرب مستعربون وأفارقة أصلاء مورثونا الاساسي موروث عربي اسلامي ومن حوله افارقة اقحاح لهم لغاتهم وثقافاتهم الخاصة ومن خلال تفاعل وتلاقح هذه المجموعات تنهض خصوصية سودانية هي العطاء الخاص للسودان وفي المجرى العربي الكبير والامجرى الافريقي الكبير يقدم السودان عطاءه الخاص قل او اكثر باعتزاز ومحبة وعلى ابنائه ان يعرفو ان وطنهم بهذا التنوع اجمل ولهذا شرط ومناخ اجمل , لكي يعطي افضل ما لديه اسمه الاحترام المتبادل اسمه الديموقراطية يبدأ بالاعتراف بواقع التنوع وحق الاخر .
2- ان الحركة السياسية السودانية ظلت نشيطة منذ نشاتها وحتى الان تتميز بالحيوية و النشاط رغم ما ظلت تواجه من حملات القمع والاضطهاد ومحاولات الحكومات المتعاقبة لتقييدها واعادة صياغتها في اطر بيروقراطية تابعة لاجهزة الدولة والفئات الحاكمة وتميزت ايضا بتعدد وتنوع احزابها وحركاتها وتضالها المتواصل من اجل الديموقراطية وتوسيع الحريات العامة ولذلك ظلت قضية الديموقراطية تحتل مكانا هاما وسط قضايا التطور الوطني ووضاعف من اهميتها ضرورة استكمال انجاز اهداف فترة ما بعد الاستقلال التي لا سبيل لتحقيقها الا عن طريق اشاعة الديموقراطية وتوسيع الحريات العامة لتمكين جماهير الشعب من تعبئة امكاناياتها والمشاركة الحقيقة في تقرير مصيرها
3- ان تجربة السودان طوال فترة ما بعد الاستقلال تؤكد ارتباط الديموقراطية وإشاعة الحريات العامة بقضايا التغيير الاقتصادي والاجتماعي لمصلحة غالبية جماهير الشعب وانعكس ذلك في ان النضال من اجل الديموقراطية وتوسيع الحريات العامة ظل يمثل هدفا اساسيا للقوي السياسية والنقابية طوال هذه الفترة . سواء كان ذلك خلال العهود العسكرية او المدنية وعكسته ايضا الارادة الشعبية العليا التي فجرت ثورة اكتوبر 1964 وانتفاضة مارس \ابريل 1985 زاسقطت الديكتاتورية الاولى والثانية واعادت الديموقراطية الثانية والثالثة وانعكس ايضا في القوة المهيمنة لم تستطع ان تعرض خططها الاقتصادية الاجتماعية (الخدة العشرية 61\1971 والخمسية المعدلة 70\1977 والستية 77\1983 والاستراتيجية القومية الشاملة 92-2002 والبرامج اللاحقة ) الا في ظروف مصادرة الديموقراطية والديكتاتورية ،بينما فشلت في فرضها خلال الفترات الديموقراطية الثلاث.. (يتبع)