مقبرة عند سفح الجبل !!
بقلم: خالد فضل
تحت أيّ قسم من أقسام الكائنات الحية يمكن تصنيف أولئك المجرمين القتلة الذين ارتكبوا مجزرة ساحة القيادة، أمام مرأى ومسمع قيادة القوات المسلحة السودانية (الباسلة !!!)، وتحت ظلال أعمدة بواباتها السامقة، وعلى مرمى حجر من نماذج (سفينتها، وطائرتها، وصاروخها) تلك النماذج المنصوبة رموزا لوحداتها المختلفة، نظرت في أصناف الكائنات الحيّة وسلوكها فرأيت عجبا ينجيها من إثم إضافة هولاء القتلة إليها، رأيت النسر ينتظر خروج الروح من جسد نازحة يقشعرّ للموت في وسط غابة، فلم يهم على من في جسده رمق روح، انتظر النسر ريثما يصير الإنسان جثة فيزدرده، انتحر المصوّر الذي إلتقطت كاميرته ذاك المشهد المهيب عندما طارت بصورته الأسافير، انتحر حزنا مما فعلت كاميرته وليس بندقيته، سمعت رواية ذاك المقاتل السابق من جماعات الهوتو وكيف تحوّل من سفّاك دماء ومحترف قتل إلى إنسان آخر وكانت نقطة تحوله البارعة درس تلقاه من لدن ذئب متوحش يقود قطيعا من الذئاب، ضعفت شراسته وطفرت مرؤته أمام إمرأة في حجرها طفل، تحاول نهش جثة جاموس نفق للتو لإطعام الصغير وتعجز أصابعها النحيلة عن فعل ذاك حتى جاءها المدد من زعيم عصابة الذئاب فصار يهش قطيعة ويعود لينهش الجثة ويلقي باللحم بين يدي تلك الإنسانة البائسة حتى تلقم الصبي بضع (لحيمات يقمن صلبه)، وكان ما كان من أمر ذاك القائد العسكري (الذي عادت إليه إنسانيته) بعد أن غابت لسنوات مارس فيها ما لا يمارسه الحيوان !! ثمّ رأيت بضعة جنود أمريكان يعتذرون لشعب العراق، يقذفون ما حازوه من ميداليات (الزيف) نتيجة أعمالهم الوحشية ضد أناس أرض الرافدين (أولئك جند الله جند الوطن حقّا وليس إدعاء).
لم أجد صنفا من أقسام الكائنات لأتوقع إنتماء أولئك القتلة إليه، دعنا نقول إنّهم ينتمون إلى مجموعة الخيبة والانحطاط والجبن والخسّة والنذالة، باختصار كل ما في قاموسك من صفات الوضاعة أرفع منهم شأنا . ثمّ بعد القتل والترويع في ذلك الفجر اللئيم من آخريات رمضان الكريم للعام 2019م ها هي مقبرة سفح جبل المرخيات تفضح الإثم الكبير، مقبرة جماعية دفنت فيها أجساد مجموعة من البشر، من الشباب والشابات ممن يوصفون في الغالب بصفة (المفقودين) عقب مجزرة فض الإعتصام، إذ هناك فئة الشهداء والجرحى والمعاقين، كل هولاء حالهم أرحم، ويا ويل الإنسان عندما تصير الإعاقة رحمة به أو يكون الموت المعلوم ( استراحة لذويه ) ما أتعس أقدار من مشت أقدامهم في هذه الأرض المسماة مجازا ( وطن)، ما أتعس شعبا كلّ تاريخه المعاصر، سفك دماء وقتل وترويع ومقابر جماعية، ما أتعس حظّ من يتقدمون الصفوف بلاء حسنا ونضالا شاقا من أجل انبلاج فجر الميلاد الجديد، عندما يصير موته المعلن سعادة وشهادة، فهناك من يقبرون هناك عند سفح الجبل القريب من أم درمان، حيث المقبرة الجماعية التي تمّ العثور عليها مؤخرا وفي البال التحقيق حول المفقودين، هذا يجعل فرضية إنتماء أولئك المقبورين جماعة إلى فئة المفقودين، ولن نستبق الحوادث ولكن نفهم بالشواهد.
الآن ليس في الأمر لبس أو غموض، الشواهد حاضرة، جثماين بشرية تمّ (كبّها) كما القمامة في مكب النفايات، دون أدنى مراعاة لكرامة الإنسان حتى وهو جثّة لا تقوى على الهتاف (حرية سلام وعدالة، مدنيااااو)، فيما الضابط العظيم شمس الدين الكباشي يصرّح بالتفاصيل أمام شاشات الفضائيات (قررنا فض الإعتصام، وحدث ما حدث!!!!!!!) شمس الكباشي حدد بالوصف الوظيفي الذين كانوا حضورا في إجتماع قرار فض الإعتصام و( حدث ما حدث)، إذا كانت النيابة الآن قاصرة أو عاجزة أو غير راغبة في كشف ملابسات دفن الجثامين ومن هم أصحابها وكيف قتلوا وكيف دفنوا إيذانا باكمال ملف الجريمة وتقديم المتهمين فيها إلى القضاء، فإنّ المطالبة بل الواجب عل حكومة الثورة أن تطلب فورا المساعدة الدولية من مفوضية حقوق الإنسان في الأمم المتحدة ومن مجلس حقوق الإنسان، ومن اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان، لأنّ هذه الجهات تملك من الخبرات والرغبة ما يمكنها فعلا من إجراء التحقيق اللازم الشفاف والنزيه والعادل، وحتى تهدأ بلابل أُسر فقدت أحباءها في أتون تلك المجزرة الوحشية، العدالة التي صدحت بها أفواه أولئك الشباب الشهداء المقبورين تحت سفح الجبل، ليست حكاية تنتهي بنقطة سطر جديد، ليست مزحة أو تكملة أهزوجة مشت بها ركبان المواكب في كل أنحاء السودان، العدالة فعل واضح وضوح الجريمة، العدالة ليست شعار بل أفعال تمشي بالطمأنينة، على الأقل تطمئن قلوبنا إلى أنّ بعض الذين (يملكون ) فيعطون (من يستحق) في هذه البلاد هم على حق فيما يزعمون، إذ هناك من يصرّح بأنّ ذاك يعطي ما لا يملك لمن لا يستحق!
وبعد، كلّما اشتدت زيّم، وحمى الوطيس، من لدن لجنة إزالة التمكين، وكشف مقبرة جماعية، والتقدم خطوات تجاه محاصرة كل منظومة الفساد والإفساد وكلّ المتهافتين والطامعين، كلما انحسر الغطاء عن هول الجرائم، كان استهداف د. القراي مدير عام المركز القومي للمناهج، تلك ممارسة شبعنا منها حد تخمتنا من فعائل أنظمة الإستبداد والديكتاتوريات، ظاهرة إلهاء الرأي العام وصرف أنظاره من قضايا الوطن المتلتلة إلى تنابذ عقيم بالإنتماء الفكري للدكتور القراي، واقحامه للفكر الجمهوري في المناهج، لو كان الفكر الجمهوري بهذه السيولة والسهولة لما كانت تدور حوله المساجلات في سوح الجامعة ّ ّ ثمّ من قال إنّ القراي وضع مناهج المدارس؟ عدم المعرفة أو الجهل بالشئ ليس عيبا، يمكن للإنسان أن يتعلم ما يجهله لكن العيب في نشر الجهالات من منابر المساجد وصفحات الصحف.