السر مكي.. عاشق الحرية وباغض العنصرية
بقلم: حيدر المكاشفي
بينما كنت ليلة امس الاول مستغرقا فى مراجعة بعض اوراقي القديمة، وقع بصري على صورة فوتوغرافية باهية وزاهية لفقيدنا الكبير واستاذنا المخضرم تاج السر مكي ابوزيد، شغلتني هذه الصورة وصرفتني عن ما كنت مشغولا به، اذ اثارت الصورة شجني وشجوني واعادت لذاكرتي مواقف كبيرة وعظيمة للفقيد الكبير، فشخصية مثل السر مكي لا يمكن عبورها وتجاوزها دون التوقف عندها وتفحصها مليا، خاصة في مثل هذه الايام التي ينشط فيها مثيرو الفتن القبلية والعنصرية المنتنة، فالمعروف عن فقيدنا السر بغضه اللا محدود للعنصرية، وهذا من مواقفه الوطنية الكبيرة التي سأقف عندها في هذه العجالة..
لست هنا في وارد كتابة مرثية عن الفقيد لا تسعها هذه المساحة المحدودة، كما انني سأكون مدعيا ومتنطعا لو قلت إنني من المؤهلين لرثاء الفقيد الكبير (أبو الكل)، الأستاذ الأكبر والمربي الجليل والشيخ الوقور والكاتب الصحافي القدير تاج السر مكي الذي غادر هذه الفانية قبل نحو خمس سنوات في هدوء يشبه شخصيته الرزينة والمتوازنة تماما، فلست مؤهلا بما يكفي لأعرض وأستعرض سيرة هذا السامق الشامخ وهي سيرة باذخة ومسيرة حافلة وحاشدة بالبذل والعطاء الوطني والتعليمي المتفاني، ولكن ما كان لشخص مثلي مكنته صدفة سعيدة ليس بمعرفة الفقيد العزيز فحسب بل ومزاملته في صحيفة الأيام الغراء لفترة رغم قصرها، لكنها كانت كافية ووافية لأعب من خبراته المتراكمة في شتى المجالات، وأفيد منها في معاركتي للحياة، وهذا من فضله على شخصي الضعيف الذي حشرني في زمرة عارفي فضله، وكان لابد لي اليوم بعد تذكري له من كلمة وفاء في حقه وخصوصا في مناهضته للقبلية والعنصرية البغيضة، فقد كان أكثر ما لفت نظري بل وهزّ دواخلي هزا في شخصية الفقيد هو بغضه اللا محدود وكراهيته المطلقة للعنصرية والعصبية القبلية، كان يستشيط غضبا ويفسد يومه ويتعكر مزاجه اذا وقف على موقف فيه شبهة عنصرية أو قبلية أو سمع كلاما أو قرأ مكتوبا تفوح منه هذه الرائحة النتنة، ومواقفه على ذلك عديدة وشواهدي عليها كثيرة، يكفيني منها في هذه العجالة المثال الذي لا أمل من ذكره والاستشهاد به، يومها كان الفقيد يجلس على مكتبه تكسو ملامحه وقاره المعهود، يشارك مجالسيه الحديث، دخل عليهم أحد الزملاء وطفق بلا مناسبة يكيل الشتائم لمن وصفهم بالعبيد، ثار الفقيد في وجه هذا الزميل ثورة عارمة وكاد أن يرميه من شدة غضبه عليه بشيء كان موضوعا على طاولته، وبعد أن هدأ قليلا أسهب في إلقاء محاضرة رصينة عن مضار العنصرية والقبلية وضرورة التخلص من هذه الأدواء الوبيلة التي لا تورث البلاد سوى الخراب والشتات، وكأني بالفقيد في حربه الضروس ضد العنصرية والقبلية كان دائما ما يتمثل أبيات الشعر الشهيرة المناهضة لهذا المرض الفتاك.. كقول الإمام علي كرم الله وجهه (الناس من جهة التمثيل أكفاء.. أبوهم آدم، والأم حواء.. فإن يكن لهم من بعد ذا نسب يفاخرون به، فالطين والماء). أو قوله رضي الله عنه (أيها الفاجر جهلا بِالنسب.. إنما الناس لأم ولأب.. هل تراهم خلقوا من فضة.. أم حديد أم نحاس أم ذهب.. بل تراهم خلقوا من طينة.. هل سوى لحمٍ وعظمٍ وعصب)، وقد كان فقيدنا استاذا ومعلما للأجيال تخصص في مادة الرياضيات (علم الاذكياء)، وقد تميز بذكائه الحاد ونبوغه في علوم الرياضيات، كما كان ساخرا لطيفا ومهذبا، ولاقى من العنت والمشاق ما لاقى خلال عهود الديكتاتورية (عهدي مايو ويونيو الاغبران)، عانى فيهما من التشريد والتعذيب في بيوت الأشباح وحورب وطورد في أكل عيشه حيثما ذهب، وقد دفع هذا الثمن الغالي عن رضا وطيب نفس دفاعا عن عشقه الكبير للحرية والديمقراطية والسلام والعدالة ودولة المواطنة، ذاك كان هو السر مكي العدو اللدود للعنصرية والقبلية. رحمه الله وأحسن اليه بقدر نقائه وصدقه وإخلاصه ووفائه لوطنه وشعبه وانحيازه للفقراء والغلابى والتعابى الذين ظل بينهم ومعهم وعاش لهم حتى وفاته..