نمط الحكم في السودان والتشاور الملزم
بقلم: خالد فضل
حسناً فعلت الحكومة الانتقالية في مسعاها الرامي لحصد أكبر قدر ممكن من التوافق حول الصيغة المفضلة لنمط الحكم في السودان، وأتابع باهتمام شديد أخبار الورش والجولات التي ابتدرتها وزارة الحكم الاتحادي من أجل الوصول للمؤتمر العام لنظام الحكم، علما بأنّ الإنقاذ المقبورة كانت قد فعلت ذات الأمر عبر مؤتمرات سميت بالقومية لمناقشة مختلف القضايا الوطنية، ولو كانت النوايا صادقة حينها، والأمر أمر شورى ملزمة للحكومة لتطبيق ما يقره المؤتمرون لكان حال نظام الحكم قد استقر منذ مطلع التسعينيات، وربما كنا الآن قد وصلنا إلى مراتب متقدمة من حيث المشاركة وتوطين وتوطيد دعائم الحكم الإتحادي، بيد أنّ الإسلاميين بطبع معهود في تربيتهم الفكرية والسياسية والأخلاقية؛ يقولون الشيء ويفعلون عكسه، يؤشرون شمال وينحرفون يمين، إذ لم تك غايتهم خدمة إنسان السودان من حيث هو إنسان، بل كانوا يسعون لإعادة صياغته ليكون لهم رهن شارة البنان!!
دائماً يجب النظر إلى الفترات الانتقالية بأنها فترات تأسيس لما يليها، بهذا الفهم يمكن أن تعتبر فترتنا الحالية من أنسب الفرص التي أتيحت للسودانيين بفضل تضحيات وبسالة الأجيال الشابة من السودانيات/نين، وهي مرحلة لفتح الطريق أمام التحول الديمقراطي الراسخ والمستدام، ومن هنا تأتي ضرورة مشاركة كل المواطنين/ات في أي حراك يهدف للوصول إلى بر الأمان، ولعل نوع وطبيعة الحكم الذي يمكن البلاد من النهوض يعتبر من المهام العظمى، وعليه يمكن النظر بتقدير عالٍ إلى الأطروحات القيمة التي تبذلها الحركة الشعبية شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، في إطار جولات التفاوض مع ممثلي حكومة الفترة الانتقالية، فالتركيز على طبيعة الدولة السودانية نفسها هو المفتاح الأساسي لحلحلة بقية القضايا، لأننا عندما نتحاور كسودانيين فقط، دون سوابق أو لواحق تبعيضية يمكننا حينها النفاذ مباشرة إلى لب ما يقعد ببلادنا من عثرات، يجب علينا -كما يقول د.عبدالله حمدوك رئيس الوزراء أن نذهب للتفاوض بعين مفتحة وذهن مفتوح لمناقشة جميع القضايا دون التمترس خلف هذا خط أحمر أو تلك قضية غير قابلة للنقاش – في الحقيقة كل قضايانا الملحة قابلة للنقاش، ومن يتوهم غير ذلك عليه إعادة النظر مرّة أخرى في موقفه.
قبل أيام استمعت إلى محاضرة في الهواء الطلق، كان أحد المواطنين يناقش في زميل له حول طبيعة التكوين السوداني؛ وبصفة المتحدث من أبناء جبال النوبة، فقد كان يعتبر نفسه سوداني أصيل، وعدد بضع مجموعات أخرى أطلق عليها هذه الصفة -أي الأصالة- فيما أعتبر بقية المجموعات من الوافدين أو المولدين، تطرّق إلى الممالك النوبية القديمة ودخول المسيحية أولاً، ثم عرج إلى تاريخ الهجرات العربية وغير العربية التي وفدت إلى أرض السودان واستقرت فيه واكتسبت بالتالي حقوق المواطنة، لكنها بحسب رأيه لا يجوز لها التطاول على أصحاب الأرض الأصليين بفرض رؤيتها وتوجهاتها على البلاد، وإبعاد أهل الحق عن إدارة شؤون بلادهم بمفاهيم عنصرية أو دينية أو جهوية. كنت مستمعاً فقط ولم أشارك في ذلك الحوار الممتاز بكلمة وقد اتفقت ضمنياً مع كثير مما طرحه، وبالطبع اختلفت مع بعض ما قاله أو استنتجه في الحقيقة، في تقديري مثل هذه النقاشات وفي الهواء الطلق، وبعيداً من برتكولات الورش واجتماعات القاعات المغلقة تفيد كثيراً في الوصول إلى الغرض من التشاور.
في هذا السياق أذكر المجهودات الكبيرة التي تبذلها بعض منظمات المجتمع المدني في السودان لتلمس مطالب الناس العاديين، ومن ذلك مشروع نظمه مركز الألق للخدمات الإعلامية قبل سنوات بعنوان (حوارات المواطن والمسؤول) وغطى بعض المحليات في ولايتي الجزيرة ونهر النيل – إن لم تخني الذاكرة – وقد ناقش المواطنون/ات الضباط التنفيذيين والإداريين في تلك المحليات حول مختلف القضايا التي تواجه تطبيقات الحكم المحلي، والتحديات والفرص المتاحة لتطوير التجربة، لقد كانت مناقشات ثرّة وغنية ومفيدة، يمكن للقائمين على شأن مؤتمر الحكم المزمع قيامه قريباً أن ينظروا في مثل تلك الأدبيات المنشورة، إذ تمثل بعض الإفادات القيمة لتقويم وتقييم التجارب السابقة. كما أنّ التجارب منذ الحكم الاستعماري والعهود الوطنية المتعاقبة تمثل مادة غنية وتجارب لا يمكن تجاوزها أبدا، ولهذا فإنّ توسيع فرص المشاركة، وأخذ الرأي والتوجهات والأفكار من أوسع قاعدة شعبية ممكنة مما يخرج المؤتمر بصورة أقرب للواقعية والقبول، فهلا نأمل في رؤية جديدة في إدارة شأن بلادنا، وحدا النبيل محجوب شريف يردد: وطن بالفيهو نتساوى نحلم نقرا نتداوى.
وبعد، فقد رحل محمد طه القدال الشاعر والإنسان الذي وهب موهبته الفذة لإنسان بلاده، رحل شاعر الكلمة البسيطة المعبرة، وفي القلب حسرة، ويا حليوة ما براك شلتي الحفّة، كل البلد بتوب حدادو إتلفّ. رحمة الله تغشاه والتعزية لأسرته الصغيرة وأسرته الكبيرة الممتدة بحجم الوطن. كما نعى الناعي أستاذنا عيسى الحلو، القاص والناقد والصحفي، صاحب الإرث الثقافي والإبداعي الغزير، عيسى الودود الخلوق وقد تشرفت بالعمل معه في جريدة الصحافة لحين من الزمان الجميل، ألا رحمه الله رحمة واسعة والعزاء لأسرته وزملائه وتلامذته ولكل قبيلة المبدعين والمثقفين.