زهراء البابو.. ثورة داخل ثورة.
الخرطوم: راشد عبد الوهاب
منذ بداية المواكب والمظاهرات في ثورة ديسمبر في السودان عام 2018م، عدّلت زهراء مواعيد عملها، فأصبحت تنتهي في الحادية عشر صباحاً، تجمع عدتها وتُرتبها في صندوق، وتغادر إلى مكان إقامتها حيث تُجهز نفسها لخوض جولة جديدة من المظاهرات. تنتظر مع الجموع في ضاحية السلمة جنوبي الخرطوم محطة البقالة الساعة الواحدة ظهراً، وهو الموعد المعلن مُسبقاً لاندلاع المواكب والمظاهرات ضد نظام الرئيس المعزول عمر البشير.
رصدتها الأجهزة الأمنية بفعل حيويتها وروح القيادة لديها، أصبحت ترتدي مع عبائتها السوداء نقاباً يُغطي وجهها للتمويه، وجربت العديد من الخدع لكسر الرقابة الأمنية التي فُرضت عليها ونجحت. وفي كل مرة كانت تشعر فيها بقدر من الخوف، كانت تشعر أيضاً بأضعافه من الغضب، بسبب ما عانته هي وأسرتها من ظلم وألم، من مواجهاتها الشرسة مع الكشة المسلطة عليها هي ورفيقاتها بائعات الشاي من قبل محلية الخرطوم، بفعل قانون النظام العام.
تعمل زهراء منذ 20 عاماً في بيع الشاي والقهوة في نهاية شارع مطار الخرطوم في حي أركويت، يتحلق العديد من الرواد من العاملين بالقرب من المكان والعابرين وبعض سكان الحي، منذ الصباح الباكر حول صندوقها الصغير، تحفظ عن ظهر قلب القهوة المفضلة لزبائنها، ومع الأيام يتحول المكان لمنتدى صباحي يتداول فيه الرواد كل الموضوعات، الا أن السياسة هي الموضوع المفضل. وتشارك زهراء بوعي كبير في النقاشات تدافع عن الثورة وعن مكتسباتها بنفس حيويتها في المواكب، لم يظلمها عدم تعليمها من أن تشكل رأياً فيما يدور من أحداث، فقد استعاضت عنه بحدسها القوي، وذكائها الوقاد، وبصيرتها الفطرية، وفوق ذلك بما خرجت منه مدرسة الحياة، وتقول زهراء: “أنا الدنيا علمتني”.
زهراء البابو يوسف عوض الكريم، 30 سنة، وأم لولدين أكبرهما مصطفى اجتاز أخيراً امتحانات شهادة مرحلة الأساس بنجاح، استطاعت تربيتهما على خير حال، بعد انفصالها من زوجها، فلم يشعرا أبداً بأنهما مختلفان، تقول زهراء: “أنا بشتغل عشان ولدي يتعلم زي باقي الأولاد، ويلبس زيهم وياكل ويشرب زيهم وعشان ما يضوق الأنا ضقته”.
زهراء من مواليد أركويت 48، عاشت فصولاً من حياتها بحي أركويت، ثم انتقلت برفقة والدتها والتي أيضاً ربت لوحدها زهراء وأشقائها وشقيقاتها إلى حي السلمة جنوب الخرطوم، بدأت زهراء العمل في بيع الشاي منذ أن كانت في العاشرة من العمر، تساعد والدتها قبل أن تتولى لوحدها دفة قيادة صندوق الشاي، وطوال تلك السنوات الـ 20 استطاعت أن تُكون زهراء علاقات قوية مع رواد مكانها، تروي زهراء: “حتى المجانين العابرين بيجوني، لأني بحترمهم وبعاملهم زي الباقين، بقعدوا، وبجيب ليهم الموية، وبعمل ليهم طلباتهم بدون تفرقة، عشان كدا بجوني”.
مشكلة زهراء الأساسية وثأرها الشخصي مع النظام البائد، هو الظلم الذي حاق بها بسبب الكَشّات، وقوانين النظام العام التي استهدفت النساء العاملات بصورة أساسية، فوجود النساء في الشوارع ومشاركتهن في المجال العام كان من الأمور التي تثير حفيظة عرابي النظام البائد، فسعوا بشتى الوسائل لمحاربة ذلك الوجود. تقول زهراء: “كانوا بيجوا يكسروا العدة ويلقطوا الحاجات، ومرات يفتشونا بي صورة مذلة، ويشيلوا الكراسي، نمشي المحلية يطالبونا بدفع غرامة 1000 جنيه، ونحن ما بنكون اشتغلنا أصلاً، بعد سقوط النظام ارتحنا من الكشة”.
تُدرك زهراء أن التغيير ليس سهلاً، ولكنها متسلحة بإيمانها الراسخ بحتمية التغيير، فهي تدرك جيداً أن الحياة ما كان لها أن تستمر في وجود الظلم وانعدام العدالة. وتضيف: “طبعاً في مشاكل كتيرة، الناس بتعاني منها، زي مشكلة العيش والمواصلات والعلاج، المستشفيات فيها مشاكل، والدكاترة مضربين عشان حقوقهم، والدواء غير متوفر، والمستشفيات الخاصة تكلفتها غالية شديد”.
فيما يتعلق بأولويات الانتقالية، أو حكومة الثورة، تقول: “في وجهة نظري أول حاجة الحكومة تعملها تحاكم الناس الذين ارتكبوا جرائم في الحكومة السابقة، والناس الضربوا وقتلوا المتظاهرين، يعني تحقق العدالة والقصاص لشهداء الثورة، لأنهم بقوا لينا فداء للتغيير دا بي دمهم، ثم على الحكومة أن تحل مشاكل المواطنين من الخبز والمواصلات عشان الناس تقدر تمشي تشتغل وتنتج، بعد ذلك تحل مشاكل العلاج، والتعليم، والحكومة لسة قدامها فرصة كبيرة”.
أما أحلامها الشخصية، وهمها الخاص، تحلم زهراء بأن تتعلم، بدأت من قبل فصول محو الأمية ولكنها انقطعت عنها بسبب ضغط العمل، وتستعد زهراء لاستئناف دراستها مجدداً، فهي تعتقد أنها تماماً مثل حكومة الثورة، ما زالت أمامها الفرص واسعة لأن تحقق أحلامها وأن “تطور نفسها”.