مدنية مدنية.. الترجمة الفورية للوعي الشعبي..!
بقلم: مرتضى الغالي
المدنية في ظروف السودان الحالية هي (موضع السجدة) في التغيير والتحوّل من الأنظمة الشمولية القهرية العسكرية، وهي تأكيد حاسم على ضرورة إشاعة ثقافة الديمقراطية التي تعني في أدق اختصاراتها الحكم المدني والمجتمع المدني الذي تتساوى فيه الحقوق بين المواطنين ولا تستأثر فيه فئة أو جماعة تحت أي ذريعة بريع الدولة وامتيازاتها على حساب الآخرين، وقد كانت المناداة بالمدنية هي الشعار العبقري الذي التحفت به ديسمبر وجعلته غطاها ودثارها (حرية سلام وعدالة).. هذا الشعار الذي انبثق من وسط الشعب بغير أن يدعيه أو يمليه كيان أو حزب أو مجموعة.. إنما هي الصيحة التي قابلت بها الثورة بعفويتها ووعيها وتلقائيتها جبروت نظام الإنقاذ الباطش ودفعت لإزالته أثماناً غالية من المُهج والأرواح والتضحيات الكبرى!
نحن لسنا جزيرة معزولة من العالم.. نحن جزءٌ من هذا الكوكب في تجاربه وخبراته ومنحيات عصره واجتهاداته التي تساوقت عبر مخاض طويل من الحروب الكبرى والتحوّلات العاصفة.. وقد تراكمت هذه التجارب والخبرات وزادت عليها ثورات العالم الكبرى وفلاسفة السياسة والاجتماع والمدارس الفكرية الكبرى من نتاج القرائح معنى أن تكون المجتمعات مدنية الطابع وهذا هو ما يقود السودان حالياً للسير على الطريق المدني وما ينتظر أبناءه وبناته من ضرورة العمل على إشاعة الثقافة المدنية بكل محمولاتها وما تمخّض عنها في نسخاتها وتجاربها الأخيرة ما أطلقوا عليه “التعليم المدني” Civic Education الذي يجب أن يتوفّر في كل دولة ولا غناء عنه لأي مجتمع بشري وخلاصته أنه يقوم على إجلاء حقوق المواطن وواجباته في حياته العامة.. وهو يسير في الطريق وهو يعمل في الحقل أو المصنع أو المنجم أو الدواوين وهو يبتكر وينجز.. حتى يعلم ما هو موقعه في الدولة وما هي حقوقه في الصحة والتعليم والحركة والسكون وفي المسكن وفي الماء النظيف وفي الصرف الصحي والمشاركة العامة والبيئة المواتية..الخ. لقد كانت صيحة المطالبة بالمدنية نابعة عن تجاوب إنساني وعن (تجربة سودانية خالصة) قادت إلى مخاض الثورة بعد معاناة طويلة امتد آخرها إلى ثلاثة عقود من الزمان كان مثالاً لمعاداة المدنية في كل خصائصها وصورها وأشكالها.. وعاشها المواطن محروماً حتى من (الحق في الصراخ) من وطأة القهر والظلم والتقتيل والاستبعاد (والاستعباد).. فقد كانت الشمولية العسكرية الفئوية طوال هذه العقود لا تمارس القهر والظلم فقط بل تشرّع للقتل وقصف المواطنين بالطائرات وللتعذيب داخل المعتقلات ولإجلاء السكان والإبادة والتهجير القسري وسرقة الموارد.. وكل ما يناقض حقوق الإنسان.. دعك من إنكار حقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية التي تضمن الحق في التعليم والعلاج والمسكن وماء الشرب اللائق والحياة الكريمة.. ودعك من حقوق حرية التعبير والتنظيم والثقافة والمعتقد.. وكانت الدولة هي المنتهك الأكبر للحقوق بإشاعتها لثقافة التمييز ومحاربة التنوع الفكري والإثني واللغوي والديني وانتهاك حقوق المرأة والطفل. وكانت هذه هي تجربة المواطنين مع هذا الحكم الشمولي الذي بلغ دركاً سحيقاً من إنكار الحقوق وتحويل الحياة إلي (منظومة من الإرهاب المادي والفكري) في وقت غابت فيه سيادة حكم القانون واستقلال القضاء وانتفت فيه المساواة وتحوّلت صروح العدالة إلى آلة مساعدة على البطش والمظالم.. وهذه العقود الثلاثة من حياة السودانيين مع فترات أخرى لحكم العسكرية الشمولية هي التي فجّرت الوعي الذي شحن أوردة الثورة وشرايينها بالوعي، وعرف الناس بتلقائية ذكية قائمة على التجربة معنى (أن يكون الحكم مدنياً).. ولهذا كان شعار الثورة في ذروة مخاضها العظيم ولحظاتها الحرجة المناداة بالمدنية.. وكانت العبقرية السودانية هي التي أحالت هذه المناداة بالمدنية إلي شعار له (رنّة صوتية ممتدة) تحمل معني التشديد على المطالبة بها وكانت صيحة الثورة (مدنياااااااااااااو).. هي الترنيمة المُحبّبة في أفواه الصغار والكبار والشباب والفتيات والصبايا والأطفال!
والثقافة المدنية (ليست نزهة) أنها ضرورة وحياة ومنهج واستراتيجية وطريق تتحقق به حركة المجتمع وتسير عليه حياة المواطنين وتنهض عليه ركائز الحياة الكريمة التي تستند على حائط العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بغير تمييز؛ وحق المواطن في أن يختار أسلوب حياته وأن يختار ممثليه ويختار نقابته ومهنته وموقفه السياسي بغير قهر أو إملاء تحت أي تبرير أو ادعاء، أو بسبب امتلاك القوة الجبرية للتحكّم في حياة الآخرين باسم الطائفة أو العرق أو المهنة أو الانتماء.. كما أن المدنية هي منظومة متكاملة و(رافعة مركزية) بين روافع تنمية روح المواطنة وتعزيز الهوية الوطنية وتعلية قيم الحرية والمشاركة في الحياة العامة والشأن العام، والتطوع الإرادي والاختيار الحر وبناء العلاقات المُعافاة بين كيانات الوطن ومجموعاته وأفراده، والحق في موارد الوطن وثرواته، وإشاعة روح العدالة والاعتراف بالتنوّع والحق في الاختلاف والحق في التقاضي ومنع تجاوزات الدولة على المجتمع والأفراد.. واحترام الحريات العامة، وإذكاء روح التسامح والشراكة المجتمعية في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع.. وهذا هو المناخ المواتي لإطلاق مبادرات المجتمع المدني واستنهاض المواطنين نحو التطوّر والتقدم والتنمية.. إنه مجتمع الحقوق المتساوية والفرص المتساوية.. وهذا هو السبيل لإغلاق الأبواب أمام شرور المحاباة والتمييز والاستئثار بثروات الدولة ووظائفها ومواردها..!
الديمقراطية تستند على الثقافة المدنية وهي فعل يتم بالتراكم ويتعرّض للاختبار (آناً بعد آن) وللسودان تجارب مع الديمقراطية لا يمكن التهوين من شأنها في منطقته وإقليمه.. وله في التشّوق للديمقراطية والثقافة المدنية (ومضات مشرقة) ولكن انقضاض الأنظمة الشمولية لم يحقق للمجتمع التطوّر في هذا السبيل… ومن واجبنا الآن أن نسترشد بالتجارب العالمية.. وكل الموروث الإنساني حق مشروع ومبذول ومتاح لنا ولغيرنا.. ويمكن أن نستنبط ملامح المدنية من بعض شوارد ثقافتنا المحلية وهي ثقافة غنية خصبة بلا جدال.. ويمكن أن نستخلص من مواريثنا ما ينسجم مع الثقافة المدنية ونزيد عليها من تجاربنا الجديدة الحيّة بعد ثورة ديسمبر الباسلة التي يراهن الوطن ومعه دوائر عالمية عديدة على أنها ثورة قامت على (مفاهيم ثمينة الوزن) في المطالبة بالحكم المدني (بغير مساومة) لتحقيق شعارات وثمرات المدنية التي جمعها شباب الثورة في شعار الحرية والسلام والعدالة.. وكل ما تتضمّنه هذا (الأقانيم الثلاثة) وكل ما يمثله كل أقنوم منها من أحكام زبدتها المساواة وترقية الشعور بالمواطنة وإنهاء الامتيازات ومشاعية موارد الدولة على سكانها وإشاعة السلم الأهلي وتأكيد حق المجتمع في الرقابة على الموظفين العموميين..! حقاً إنها مطالبة مشددة بالمدنية (مدنياااااااااو)…!!