ثورة مفاهيم.. لا ثورة من أجل الخبز..!
بقلم: مرتضى الغالي
لم يكن توصيف ثورة ديسمبر في السودان بأنها ثورة مفاهيمية توصيفاً مُغالياً؛ إذ إن الطابع المدني والسلمي لهذه الثورة هو الذي أسبغ عليها هذا التوصيف ووضعها في مصاف الثورات العالمية الكبرى.. وهي ثورة تدفع للمقارنة والتأمل في ملفات الثورة الفرنسية 1789 – 1799 والثورة الأمريكية 1775-1783 والثورة الروسية 1917-1927 والثورة الإنجليزية 1642-1660 والثورة الصينية 1949 وحتى الثورة المكسيكية 1911 وثورة العبيد (سباراتاكوس) في 73 قبل الميلاد! وهي ثورة متفردة كذلك بالنظر إلى الثورات والانتفاضات والهبّات السودانية السالفة على أهميتها وجدارتها.. فالأمر هنا أمر (خصائص وسمات) رافقت ثورة ديسمبر التي نعيش الآن تداعياتها ونواجه تحديات المضي بها قدماً لتأسيس شعاراتها في الحرية والسلام والعدالة. وهذا هو ما نشير إليه من أنها ثورة مفاهيم استطاعت أن تتخطى العديد من العقبات التي كبلت السودان في تاريخه المعاصر، وأن تتجاوز التشوهات الذي أحدثها بالمجتمع نظام الإنقاذ العسكري الإقصائي الشمولي القهري؛ ويمكن أن نتلمَّس هذه المفاهيمية من عدة محاور نحاول بيانها فيما يلي:
1- تميّزت ثورة ديسمبر بالسلمية منذ انطلاقتها وعبر كل مراحلها، ولم تفارق هذه السلمية في أشدِّ لحظات الحرج التي كان فيها النظام المدجج بالأسلحة الفتاكة واليد المُطلقة والقوة المفرطة يواجه الاحتجاجات العزلاء، بأعنف وسائل القمع التي لم يشهدها تاريخ الاحتجاجات والتظاهرات السودانية؛ من إطلاق للرصاص الحي والسحل والدهس وقتل الغيلة والإغراق بربط الأجساد بالحجارة وممارسة الاغتصاب والترويع والاختطاف والتشويه والترهيب والتشويه الجسدي والمعنوي والاعتقالات الجماعية والإذلال وانتهاك الخصوصية واقتحام المساكن.. وعلى ضخامة مسيرات الاحتجاجات غير المسبوقة لم يتعدَّ المتظاهرون الثوار على المباني أو المرافق العامة أو الممتلكات الخاصة أو السيارات أو حتى لافتات الشوارع وإشارات المرور!
2- المشاركة الواسعة والريادية للمرأة السودانية التي كانت قلب الثورة وفي صفوفها الأمامية قيادة ومشاركة وتحملاً للتبعات وكسراً لـ(تابوهات) الفرز الذكوري والأنثوي التي تعشعش في كثير من قطاعات المجتمع السوداني.. وفي كل الأحوال كان نصيب المرأة في هذه الثورة قدماً بقدم مع نصيب الرجال (يزيد ولا ينقص)؛ وهي بذلك ثورة المساواة بين الرجل والمرأة التي توطد فيها الاحترام المتبادل والأقدار المتماثلة.
3- ظاهرة السمة الشبابية للثورة فقد كان وقودها الشباب نساء ورجالاً.. بل إذا شئنا تفصيل المراحل العمرية لقلنا أن القطاع الأكبر من المشاركين في الثورة كانوا من الشباب والفتيان والأيفاع والصبايا ومن هم دون سن الشباب المعروفة في القوانين والأعراف.. والمفارقة الجديرة بالاعتبار أن معظم هؤلاء الشباب عاشوا سني عمرهم بالكامل منذ ميلادهم تحت الحكم الشمولي القابض الذي ثاروا عليه؛ ولم يشهدوا في حياتهم ممارسة ديمقراطية وحكماً مدنياً يتمتع فيه الناس بحقوق الإنسان وحرية الحركة والتنظيم والمشاركة العامة والعمل السياسي؛ ولم يعيشوا أي فترة سياسية غير فترة الحكم العسكري الشمولي الأصولي.. بل إن الشباب هو القطاع الذي استهدفه النظام المُباد بالتهميش والملاحقة اليومية.
4- تميّزت الثورة بأنها لم تكن ثورة الطبقات المتعلمة و(الأفندية) في عاصمة البلاد، بل امتدت عبر كل بلدات ومدن السودان و(عشوائياتها) وعبر أرياف الوطن وبواديه وقراه ومضاربه النائية، ودخلت الثورة البيوت السودانية واجتذبت إلى قضيتها الأب وألام والجد والجدة والحفيد والحفيدة.
5- وهي ثورة قيمية مفاهيمية لأنها استطاعت أن تُعلي من شأن فضائل سياسية واجتماعية عبرت بالناس والوطن (مطبات تليدة) عديدة وشائكة؛ وانتصرت على كثيرٍ من المظاهر السالبة مثل الاحتفاء بالجهوية والقبلية والعنصرية والإثنية خصماً على المواطنة والمساواة. فما أسرع أن انبثق شعار (كل البلد دارفور)، وأصبح (زاد المواكب) ومادة التدوينات والهتافات والنداءات وحداء الثوار.. فأزال هذا الشعار مرارات واحتقانات سابقة نشأت من مظنة عدم التفاعل الشعبي في وسط السودان بالمحارق التي في مناطق النزاع والريف المُهمل.. وكان البلسم الشافي للحانقين من (المركزية الخرطومية) والظلم التنموي وغياب العدالة الاجتماعية والقسمة العادلة للثروة والخدمات بين جميع أقاليم البلاد.
6- وهي الثورة التي صنعت شعاراتها خلال الحالة الثورية ولم يتم صياغة شعاراتها ومطالبها في دوائر حزبية أو بالتخطيط المسبق والتوجيه من أعلى.. فصدحت بشعارات الحرية والسلام والعدالة والمناداة بالمدنية والكرامة وحكم القانون ودولة المؤسسات..الخ، وكلها شعارات خرجت من جموع الشعب وليس من شخص أو مجموعة بعينها وكانت وليدة الشارع الثائر.
7- وهي الثورة التي تلاقت فيها كافة طوائف المجتمع من متعلمين وغير متعلمين ومن عمال وموظفين وناشطين وحرفيين وطلاب ومعلمين وتجار وأصحاب أعمال وعاطلين عن العمل وفقراء وميسورين عبر كل الفئات والطبقات. وكسرت الثورة حواجز الطبقات والفئات والجهويات والمنشأ والمهنة ومناطق السكن والمدينة والضاحية وأزالت (العنجهيات القديمة) المتصلة بنوع العمل ومكانه وعائده، وبخطوط الثراء والفقر.
8- وهي الثورة التي رافقتها مسيرة مدهشة من إبداعات الفنون والشعر والنثر والأدب والتلوين والتشكيل والتصوير والرسومات التعبيرية والفيديوهات والتنويهات والدراما والغناء والموسيقى والاستخدام غير المسبوق لوسائل الاتصال والتقنية الحديثة بل وكسر الحظر على شبكات الاتصال. وانطلقت المواهب من عقالها لتكشف عن (المخزون الإبداعي العجيب) للشعب السوداني؛ ذلك الإبداع الذي كان حبيس الصدور والدوائر المغلقة.. فبرز من ثنايا الثورة فنانون وخطباء وشعراء ورسامون ونحاتون وملحنون ومطربون وموسيقيون.
9- خالفت الثورة النمط المعهود لدى السودانيين وتميّزت بالدقة البالغة في (الزمن والتوقيت) والانضباط الحازم في موعد خروج المواكب والمسيرات والتقيد بالنداءات والتوافقات التي تحدد الزمان والمكان والانطلاق والكيفية.
10- وهي الثورة التي حرّكت السودانيين في المهاجر في مختلف بلاد العالم بتجاوب عجيب وبمشاركة فعلية بالمال والدعم والإسهام الفكري والإعلامي والطبي وعبر الدبلوماسية الشعبية وقد نجحوا في توجيه أنظار العالم نحو ثورة السودان، وشهدت عواصم العالم ومدنه تظاهرات ومحافل ومسيرات غير معهودة؛ وأكد السودانيون المغتربون أنهم لم يتركوا السودان من اجل الخلاص الفردي وأنهم موصولون به، وكانوا يرددون ذات الشعارات وقد عادت لهم ولأطفالهم نشوة الانتماء إلى وطن يكتبون اسمه على جباههم وستراتهم.
هذه بعض معالم الثورة التي تجلّت فيها معاني التلاحم بين المكونات الاجتماعية وظهرت الشراكة في ميادين الثورة وساحات الاعتصام في اقتسام العمل والجهد وكسرة الخبز وجرعة الماء.. وكانت الميزة الأسمى للثورة الرفض المطلق للعنف أو الاستعانة بالسلاح أو بأي تشكيلات مسلحة إعلاء لشأن مدنيتها وسلميتها التي هي (ميزتها التفضيلية) الأولى والأخيرة..!!