الديمقراطية الأمريكية في محك ترامب
بقلم: خالد فضل
ينسب إلى ونستن تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الأسبق مقولة مشهورة في وصف الديمقراطية بأنها (أسوأ نظام للحكم و لكن لا يوجد أفضل منها) لعل هذه المقولة في شقها الأول هي التميمة التي يعلقها كل دكتاتور على صدره، اما الشق الثاني من المقولة فيستلزم من الدكتاتور أن يضفي كلمة ديمقراطية على نظام حكمه أو دولته، فقد كانت جمهورية السودان الديمقراطية مثلاً تحت قبضة المرحوم النميري الحديدية، مثل ما كانت كوريا الديموقراطية و ما تزال من ايام كيم ايل سونق و وريثه ابنه بالطبع، فكوريا ديمقراطية، و من سخريات مظفر النواب (و قابوس هذا ولد منذ المهد ديمقراطيا، لذا تساهل في لبس النعل و وضع النظارات، فكان أن اعترفت بمآسره الجامعة العربية يحفظها الله).
الآن تدخل الديمقراطية الأمريكية العريقة في اختبار عسير، بفضل الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، لقد لعب الرجل دور رئيس من دول الديمقراطيات اياها، و باللغة العامية (خرخر) عندما حكمت صناديق الاقتراع بخسارته للسباق الانتخابي و فوز منافسه جو بايدن عن الحزب الديمقراطي، في الحقيقة تبدو الديمقراطية في أميريكا مزدهرة و ناضجة، فالمؤسسات الديمقراطية تعمل بأعلى كفاءة، و القضاء مستقل تماماً؛ حتى على مستوى المحكمة العليا التي يمتلك الحزب الجمهوري أغلبية أعضائها، و لكنهم عند المحك يعلون من شأن مؤسستهم، التي دون مقامها ا اي انتماء آخر، دعونا نحلم في حلمنا بالمستقبل أن يكون قضاء السودان هكذا، و تنتفي إلى الأبد ظاهرة جعله تابعاً للحزب الحاكم و أجهزته الأمنية ، كما أن الكونغرس و هو أعلى سلطة تشريعية لا يهزه اختراق متفلتين، بيد أن الجيش الأمريكي حامي الدستور و حارس المصالح العليا للبلاد، و صمام أمان كل مواطن أمريكي، لا يقسم بالولاء و العمل الا من أجل أمريكا أولاً دون أن يكترث لمن فاز و من خسر في مسابقات السياسيين الانتخابية، فالدستور و أميركا و امن المواطن الأمريكي اسودا و أبيضا ملوناً و احمرا مؤمنا و ملحدا، ذكرا و أنثى، هو شغل ذلك الجيش الشاغل، و نطمع في بلادنا أن يرتقي جيشنا الواحد الموحد لذاك المرتقى، و تنتفي و إلى الأبد اي دعوى للتفويض، و ان يرعوي الزاحفون عن سكة العدم هذه.
لقد فاز الرئيس ترامب بثقة أكثر من سبعين مليون أمريكي، و الفارق بينه و بين بايدن ٢ مليون أقل أو أكثر بقليل، و هذا يعد في مضمار الكسب الانتخابي فوزاً كبيراً للخاسر، ليس مثل تلك الانتخابات التي عشنا تجاربها على مدى ٣٠ سنة من عمر حكم الإسلاميين المباد، فالذين يؤتأ بهم أو يسمح لهم بالترشح أمام البشير كانو يخسرون بنتيجة أقلها خمسة مليون صوت مقابل مئات الأسواط؛ كما حدث مع زعيم المعارضة في آخر سباق انتخابي للبشير فضل السيد شعيب في ٢٠١٥، قلنا أن ترامب حصل على ما يقارب نصف أصوات الناخبين الأمريكان، و شملت قائمة مؤيديه كل أطياف المجتمع الأمريكي بتعددياته المعروفة، و ان كانت الأغلبية من المواطنين البيض، و سكان الأرياف بصورة خاصة، و يبدو أنه قدم خطابا شعبوياً لامس من خلاله رغبات هؤلاء الريفيين من جماعات البيض، الذين يؤرقهم كما يبدو الخطاب الأقرب لخطاب اليسار الذي يقدمه الديمقراطيون، و الذي حازوا بموجبه على اغلبية أصوات الأقليات المختلفة، و ضم تحالفهم الديمقراطي طوائف عديدة شملت حتى أقصى اليسار الأمريكي، و لعل ترامب قد حاول مثله مثل أي رئيس في العالم الثالث، و بخاصة العالم العربي و الإسلامي ، العزف على آلة الشيوعيين المحببة لدى كل طاغية و دكتاتور، و التي من عجب تثير حفيظة فقراء العالم الثالث و كادحيه، الذين ما ظلوا على قيد الحياة إلا بفضل اشتراكيتهم الفطرية، مثل أعمال النفير عندنا في السودان، و التكافل الاجتماعي، و الملكية الجماعية للمراعي و الأراضي الزراعية، و غيرها من صور الاشتراكية، و لكن للمفارقة عندما يدعوهم الشيوعيون للمبادئ الاشتراكية(من واقعنا ما من اكتر) تراهم يزمجرون خلف كل مهووس و تاجر دين، و يتوعدون الشيوعيين بالويل و الثبور؛ إذا دعاهم أمام بكاي، يمتهن نشر التضليل و يتنفس الكذب و الادعاء بأسم الدين كما في وصف مظفر يخاطب علياً (لو جئت اليوم لحاربك الداعون إليك و سموك شيوعياً) الطريف أن ترامب قد صار في هذا المنحى إماماً و داعياً مثل أولئك يزمجر و يتوعد و يخوف الأمريكان من حكم الشيوعيين و اليساريين، و قد جاء الرد بليغاً بفوز من يصفهم بهذه الصفات و حاز بايدن على ثقة الذين ذكرناهم سابقاً.
لعل ما قام به ترامب من ممارسات و أعمال لم تخرج كلها حتى الآن عن نطاق ما تسمح به الديمقراطية، و دولة المؤوسسات التي شيدت قبل أن يولد ربما جده الثالث، و مع ذلك لم تبلغ بعد حد الكمال، فالديمقراطية مثلها مثل اي منتج بشري مادي أو معنوي قابلة للتطوير، و لأنه ببساطة لا يوجد نظام للحكم أفضل منها رغم وصفها بالسوء كما في مقولة تشرشل المار ذكرها، و عندما توضع الديمقراطية على المحك كما يفعل ترامب الآن، فإنها قادرة على ابتداع صيغة أكثر تطوراً لمعالجة الإخفاق، كما يفعل الأطباء و المهندسون و العلماء و الباحثون عندما يوضعون على المحك و يواجهون التحدي في ما بين أيديهم من عمل، فتراهم يطورون و يخترعون ما يجعل ذلك التحدي جزءا من التاريخ فقط، انها الديمقراطية التي ترتقي بممارستها الشعوب، و لابد أن يخضع بأساليبها و طرقها كل جبار عنيد و لو كان في مقام صاحبنا دونالد ترامب.