الأحد, نوفمبر 24, 2024
تقاريرمجتمع

رغم مرارات الحرب.. ذكريات الحب والسلام بمعسكرات النزوح (2)

نيالا- كادقلي: صفية الصديق

محطة الذكريات الثانية هي معسكر كلمة بولاية جنوب دارفور، مدينة نيالا ومجمعات النازحين بمدينة كادقلي عاصمة جنوب كردفان- حتماً لن تكون الأخيرة لأن الخاطر والقلب قريبان من هناك- في مخيلتي صورة مختلفة تخالطها الصورة النمطية للمعسكرات، صور عن أحوال الناس وماذا فعلت بنفوسهم وقلوبهم الحرب، صورٌ عن كيف يعيشون وهل تتوفر لهم الخدمات؟ صورة يرسمها الحديث المتكرر عن غياب دعم الحكومة المخلوعة بكل مؤسساتها لمعسكرات النزوح- نتذكر أنها تدعمهم فقط حرباً وخيانة وتطعمهم عنفاً وقهراً.

خطوات محسوبة

حملت صوري كلها – تغيرت كل ملامحها في محطتي الأولى بمعسكر الحميدية بوسط دارفور – متجهاً صوب محطتي الثانية أكثر حماساً لأنني حصلت على نصف الصورة، كالمعتاد أيضاً كان لنا لقاء في المعسكر قبل العمل. اجتمعنا بلجنة المعسكر من كل مربعاته (السناتر كما يسمونها) – ما خطف قلبي أننا فور دخولنا المعسكر ولقائنا برئيس منسقية النازحين واللاجئين بدارفور يعقوب فُرَي قبل أن يمد يده ناداني (أهلا ماما)!.. لم أحس بغربة بعدها – كانت الإلفة تسود المكان، رتبنا لقيام ورشة العدالة الانتقالية والسلام الاجتماعي ليومين وقبل البدء اصطحبنا يعقوب فري ومجموعة من قادة المعسكر لمقر البعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي (يوناميد) (قبل مغادرتها)، عرّفنا بالبعثة وأخطرهم بقيام الورشة وعندما خرجنا منهم قال لنا: لا تستغربوا فالبعثة تقوم بتأميننا لذا علينا أن نخطرهم بما يدور داخل المعسكر احتراماً لمجهوداتهم وضماناً لمساعدتنا حال حدوث أي طارئ. في معسكر كلمة كل شيء مخطط له ومرتب تماماً فالصدفة قد تعني لهم الموت لذا لا بد من حساب أية خطوة.

أولويات

حنان خاطر، يعقوب فرَي، ترلين، استرليني، إسحاق، أسماء وصورٌ محفورة في أماكن عميقة في القلب، وجوهٌ أراها في الخرطوم، في وسط وشرق الجزيرة، في شمال وشرق السودان.. يا إلهي إنهم يشبهون السودان وسحناتهم تتداخل مع كل ثقافته، فلماذا الإبادة العرقية إذن؟! لماذا الحرب والدمار و(حُرقة الحشا)؟!.. قضينا يومين في مركز العدالة والثقة بـ (سنتر 5) كالعادة كانت أية استراحة للعمل هي وقت ممتع للذكريات والحكي؛ في الركن هناك تجلس حنان ورفيقاتها من لجنة المرأة ليطبخن الطعام لأكثر من (140) فرداً ويقمنَ بإعداد الشاي والقهوة؛ وأدوارهنّ النمطية هذه لم تمنعهنّ من أن يكنّ مشاركات بفعالية في نقاشات الورشة والدفع باقتراحات حول قضايا النساء والانتقال.

يرسم سكان المعسكر، رجالاً ونساءً، خارطة طريقهم للانتقال بأولويات أكثر أهمية منها (الحق في الحياة والأمن) ويتركون ما هو أقل أهمية لما بعد الانتقال لأنهم لا يريدون أن يثقلوا كاهل الحكومة الانتقالية بحسب قول يعقوب فُرَي لـ (مدنية نيوز) أمس، لكنهم ورغم ذلك ما زالوا يتعرضون لعنف مفرط فبعد انسحاب (يوناميد) تعرض المعسكر لأكثر من هجوم من مجموعات مسلحة معروفة، لكن رفع والي ولاية جنوب دارفور يده عن حمايتهم، عنف وقتل توثقه بيانات تنسيقية النازحين ولا يوقفه إلا السلام الحقيقي الذي يخاطب أولويات قضاياهم.

أصوات الحب

فدينة أحمد، أبنوسية الملامح لم تكمل عامها التاسع عشر بعد، لكن أحلامها وهمومها أكبر من الخمسين؛ درست فدينة بمعسكرات النزوح بجنوب السودان وتحصلت على الشهادة الثانوية من هناك، عادت بعدها لتستقر بـ(الحلة الجديدة) أحد الأحياء الواقعة شمال كادقلي (وهو حي يتجمع فيه النازحون من أماكن مختلفة من المدينة)؛ عادت وهي تحلم بالدخول للجامعة إلا أن حاجز اللغة والإمكانيات يقف في وجهها، تحلم أن تدرس الطب أو الصيدلة لكنها لا تعرف حدود مشروعية حلمها، تحمل من الوعي بقضايا منطقتها ما تعجز عنه مؤسسات فهي تنتقد ثقافة أهلها في الأسماء، تتذمر لعدم احترام المواطنين لدور عبادة المسيحيين، تحلم بأن تتمتع بنات جيلها بتعليم وحقوق وأمان وحياة كريمة حتى لو فاتتها الفرصة.

لا تجد فدينة مبرراً لغياب الدولة عن قضايا النازحين وفي معرض حديثها لـ(مدنية نيوز) تقول: “لا أدري ما هو الصعب في توفير الأمان والخدمات لنا، لماذا كل هذا الظلم؟”، كل هذا جعلني لا أنسى كلمتها التي ترن في أذني دائماً وهي تتحدث إلىّ مع صديقاتها: (أولسنا بشراً نستحق الحياة الكريمة؟ هل سواد بشرتنا يحرمنا من الحقوق؟).

تساؤلات فدينة هذه حرفياً هي صوت نساء ورجال كثيرين في الحلة الجديدة، تافري المجمع، الشعير، الإسكان الشرقي؛ إلا أنهم ورغم ذلك لا يضمرون سوى الحب للجميع والرغبة في الاستقرار، قد يتذمرون من وجودك للوهلة الأولى كما فعل (عملية) بمعسكر المجمع، إلا أنها (فورة لبن) كما قال هو ذاته، فهجومه لأن المعسكر من نزوحهم إليه قبل أكثر من عام لم يحسوا فيه بالأمان من كل النواحي رغم أنه مغلق ومحمي.

أخيراً..

هي محطات كمحطاتنا في الحياة، تترك في نفوسنا أثراً عظيماً وحتماً ستغير نظرتنا للحياة التي لا لون لها ما لم تحترم ألواننا وتحقق لنا قيمتنا كبشر نحلم بالتنمية المتوازنة والسلم والحرية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *