الثقافة وأزمة الانتقال.. غياب الحل (السهل الممتنع)
تحقيق: نصر الدين عبد القادر
يُقاس مدى تقدم أيَّة أمة من الأمم بمدى اهتمامها بالثقافة والفعل الثقافي، وتفاعل وانفعال المجتمع معه.. وهذا ما يعني أن التأخر والأزمات ـ اجتماعية، اقتصادية، سياسية ـ يأتي نتيجة لإهمال وتجاهل دور الثقافة في نهضة البلدان، التي تقوم في الأساس على الإنسان.
هذه المقدمة تقودنا بتتبع مسار الأزمة السودانية والتحقيق فيها من لدن بوادر الحركة الثقافية في السودان منذ عهد المستعمر وحتى الوقت الراهن، وإلى أي مدى ساهم غياب الثقافة في ما يعيشه سودان ما بعد الثورة من أزمة انتقال ومعيشة.
مرتبة ثانوية
يقول بروفيسور عبد الله حمدنا الله: إنَّ من أسباب فشل الحركة الوطنية في بواكيرها وضع الثقافة في مرتبة ثانوية، ويظهر ذلك في منفستو حركة الاتحاد السوداني سنة 1924م، حيث جاء في واحدة من فقراته: (هي حركة ثقافية على أن تتحول إلى حركة سياسية)، وهنا يظهر وضعها كوسيلة لغاية، والأحوط كان يمكن أن تُكتب (هي حركة ثقافية تخرج منها أو تتخلق داخلها حركة سياسية)، خير من أن تتحول إلى سياسية وتختفي من المشهد.
يضيف حمدنا الله: أن هذا الوضع منذ ذلك الحين ساهم في تراجع دور المثقف في الحياة العامة، واعترافه الضمني بعلوية السياسي عليه، إذ يحظى الأخير بامتيازات ومخصصات، يسيل لها لعاب المثقف، وبالتالي يقوم بتسوّله، ليلقي إليه بفتات من تلك الامتيازات والمخصصات.
هذه الإفادة يؤكدها الوضع القائم حالياً، والحياة المترفة التي يعيشها السياسي بعد وصوله للسلطة، وحياة المثقف (أديب، شاعر، مفكر…) الموغلة في الضنك وشظف العيش، مما يدفعه للحاق بسفينة السياسة عله يجد له منها نصيب، وبالتالي يهمل دوره في الارتقاء بالمجتمع وبالسياسي نفسه، ولذلك نماذج كثيرة نذكر منهم الشاعر والأديب محمد أحمد محجوب، الذي ترك الشعر والفعل الثقافي وعمل بالسياسة، ثم فقد كليهما.. وهنا لا نريد الخوض في جدلية العلاقة بين المثقف والسلطة كما تناحر في ذلك المفكرون.
ولأن الثقافة سلاح الأمم الأقوى، كان الدكتاتوريون أولى معاداتهم تكون للمثقفين، ويتجسد ذلك في مقولة وزير الدعاية السياسية في عهد النازيين الألمان الجنرال جوبلز المشهورة: (كلما سمعتُ كلمة ثقافة، تحسستُ مسدسي).
ولذلك نجد أن المستعمر البريطاني لم يسع لتوطين هذا الدور، بل قام ببناء مدارس تخرج له موظفين إداريين يساعدونه في بسط سيطرته وهيمنته على ثروات البلاد.
ومن جانبه يقول عميد كلية الدراما والمسرح بجامعة السلام د. حمد عبد السلام: لذلك نجد أن أول مسرح تم بناؤه كان في العام 1958م، والذي شيده طلعت فريد، والناس يعلمون الدور العظيم للمسرح في الارتقاء بالمجتمعات… وهو ما سوف تخصص له (مدنية نيوز) تحقيقاً منفصلاً.
ما يعنينا في هذا التحقيق هو غياب دور الثقافة من أجندة حكومة ما بعد الثورة، لأن الكل يعلم التخريب المتعمد الذي مارسه النظام المخلوع في تدمير المراكز الثقافية، وبيع دور السينما وتجفيف منابع الحركة الثقافية مثل دور النشر وصناعة الكتاب، وغيرها وفرض نمط ثقافي آيديولوجي واحد يرسخ مفهوم الجهاد والحرب والدمار وفقاً لمنظور قادة الحركة الإسلامية التي استولت على السلطة في 1989م.
فما قبل تشكيل الحكومة الانتقالية، لم تأتِ الوثيقة الدستورية بما يضع الثقافة من أولوياتها، فكل الأولويات التي اشتملت عليها مثل السلام، معاش الناس، الانتخابات، تقاسم السلطة… لا يتأتى إلا في ظل مجتمع تكون فيه الثقافة ماشية بأقدامها بين الناس، لأن ذلك يقود إلى تفريغ كل المرارات والشحنات السالبة، ومن ثم سهولة تحقق تلك الأولويات، وذلك وفقاً لمراقبين من الحقل الثقافي للأوضاع.
غياب بعد الثورة
وبعد تولي د. عبد الله حمدوك، منصب رئيس الوزراء غاب دور الثقافة في الانتقال الديمقراطي، من معظم خطاباته وقراراته، فأصبحت الوزارة المعنية من أضعف الوزارات، ومخصصاتها غالباً ما تنتهي في الفصل الأول من ميزانية الدولة والوقود والكهرباء حسب ما ظل يشكو منه الوزير السابق فيصل محمد صالح، ووكيل أول الوزارة رشيد سعيد.
وعندما قرر رئيس الوزراء طرح مبادرة لمعالجة الأزمة والانقسام متعدد الأوجه: ( مدني مدني/ مدني عسكري/ عسكري عسكري) كما وصفه، كان من المتوقع وجود الثقافة كواحدة من أهم نقاط المعالجة، لجهة كونها الأمر الوحيد الذي لم يتم تجريبه بجدية منذ الاستقلال لمعالجة الأزمة.
ومن ملامح تجاهل دور الثقافة من قبل حكومة الفترة الانتقالية، هو ما شكت منه المكتبة الوطنية التي تم حرمانها لأشهر طويلة من (الترقيم الدولي للكتب والمؤلفات)، وهو أمر يتعلق بسيادة الدولة، ويحصي إنتاجها الأدبي والفكري والإبداعي المكتوب.. ولم يصل المبلغ المطالب به السودان الـ(10) آلاف دولار.
فضيحة
وفي السياق قال الروائي والقاص محمد خير عبد الله، لـ (مدنية نيوز) أمس، إن حرمان السودان من الترقيم الدولي للكتاب، يعتبر فضيحة وطنية، وكان على الدولة حتى إذا لم تكن قادرة على دفع مبلغ الستة آلاف دولار، كان يمكنها تسول الرأسمالية المحلية أو تفرض عليها ذلك، بدلاً من أن تسير بهذه الفضيحة الركبان.
ومن ناحية أخرى إذا نظرنا إلى الأندية، والتي بحسب تسجيلها هي أندية: رياضية/ ثقافية/ اجتماعية، نجد أنها لا تهتم إلا بالجانب الرياضي، وفي الجانب الرياضي نفسه تهتم بكرة القدم فقط.. إضافة إلى غياب المكتبات العامة، والمنتديات الكبيرة بالأقاليم والمناطق الطرفية بالعاصمة، ما جعل الفعل الثقافي محصوراً بين وجوه يحفظ بعضها الآخر.
نقص المعلومة
يقول الأستاذ محمود محمد طه: (إن الشعب السوداني لا تنقصه الأصالة، ولكن تنقصه المعلومة).. والمعلومة هي معرفته بتاريخه وحضارته وميزة تنوعه وتعدده، وهي النقطة التي قامت عليها قوة الولايات المتحدة الأمريكية في جعل الإنسان أولاً.
الخلاصة:
وحسب المتابعات مع المهتمين بتشخيص أسباب وحل الأزمة الوطنية، يخلص هذا التحقيق إلى خلاصة مفادها أن الثقافة غائبة تماماً عن أجندة حكومة ما بعد الثورة، وهذا الأمر أفضى إلى الواقع المأزوم الذي تعيشه البلاد اليوم، ولن يتحقق شيء من الأهداف المرسومة من غير تعزيز وتأكيد دور الثقافة، فهي مخرج البلاد ربما الأوحد لكونه يقوم بتعريف المجتمع بماهيته وما له وما عليه.
هذا ما يمكن قوله في هذا التحقيق العام، ويشدد المهتمون بالشأن الثقافي على الدولة وأهل الاختصاص بضرورة تفصيله، ومن ثم الفصل في تلك القضية التي يصفونها بالسهلة الممتنعة.