الهروب من قتامة الواقع إلى قاع البحر
بقلم: حيدر المكاشفي
فُجعت البلاد بعامة وضاحية (أم دوم) شرقي العاصمة الخرطوم بخاصة، بوفاة تسعة من أبناء (أم دوم) غرقاً في البحر الأبيض المتوسط قبالة الشواطئ التونسية السبت الماضي، نسأل الله لهم الرحمة ونعزي الأهل في أم دوم. ووقع هذا الحادث الفاجع الأليم عندما كان هؤلاء الشباب يحاولون العبور إلى أوروبا على ظهر قارب صغير انطلق بهم ضمن 127 آخرين، معظمهم سودانيون، من سواحل زوارة الليبية متجها إلى إيطاليا، وغير أبناء أم دوم الغرقى التسعة توفي غرقاً كذلك ما لا يقل عن 34 آخرين، وتم إنقاذ 84 حسبما أعلن الهلال الأحمر التونسي. ولم تكن حادثة شباب أم دوم هي الأولى ونتمنى أن تكون الأخيرة، حيث توالت خلال الفترة الماضية العديد من مثل هذه الأحداث المفجعة التي راح بسببها كثير من الشباب الأفريقي الهاربين من أوضاع بلادهم المتدهورة إلى حيث يمنون أنفسهم بحياة أفضل في دول العالم الأول. ويشهد السودان كغيره من الدول متدهورة الاقتصاد وتعاني من معدلات بطالة كبيرة في أوساط الشباب، إقدام مئات الشباب السودانيين القيام بهذه الرحلة المحفوفة بالمخاطر، رغم ما يعلمونه عن مخاطرها وفقدان المئات لحياتهم غرقاً.
وتفتح حادثة شباب أم دوم المحزنة مجدداً، ملف المعاناة الحياتية البالغة التي يكابدها السودانيون نتيجة الغلاء الفاحش الذي ضرب كل السلع والخدمات، هذا إضافة لما تعانيه فئة الشباب من بطالة وفراغ، إذ انسدت في وجوه خريجي الجامعات من مختلف التخصصات فرص العمل، هذا غير من تركوا الدراسة من المرحلة الثانوية وغيرهم من الشباب العاطل. وليست هناك دلالة على الحصاد المؤسف الذي بلغته الأوضاع الاقتصادية، أبلغ من مشهد أهالي أم دوم الذين توشحوا بالسواد حين تلقيهم النبأ الفاجع فتجمعوا بالمئات في باحة واسعة يعزون بعضهم بعضا ويبكون فقدهم الجلل. وتظل مشكلة البطالة التي يكابدها الشباب أشبه بالقنبلة الموقوتة التي يمكن أن تنفجر تحت أية لحظة انفجاراً مدوياً، خاصة وأن هناك أعداداً هائلة أخرى ستنضم تباعاً بعد التخرج إلى هذه الجحافل العاطلة، هذا غير ما يمكن أن تجره في الأثناء البطالة والفراغ من مشكلات جمة أخلاقية وجنائية على ما تنوء به سجلات الشرطة الآن من جماعة النيقرز وتسعة طويلة. ومعادلة العلاقة الطردية بين البطالة والجريمة والهجرة غير الشرعية وركوب البحر المفضي إلى الموت تقول: كلما زاد أعداد العاطلين ارتفعت نسبة الجريمة وارتفعت أيضاً أعداد من يركبون المخاطر، وهذا أكبر مهدد اجتماعي وشيك، يتطلب إدراكه بأعجل ما يكون وإلا (إذا أصيبت أمة في شبابها وأخلاقها فأقم عليها مأتماً وعويلا)، فالظروف الاقتصادية الصعبة والضاغطة علاوة على العطالة الفاشية تظل هي الدافع الرئيسي الذي يدفع هؤلاء الشباب للوقوع فريسة في أيدي عصابات التهريب، بوهم النجاح في العبور إلى إحدى الدول الأوربية التي توفر لهم ظروف حياة أفضل، وشعارهم (حياة حياة، موت موت) بعد يأسهم من انصلاح حالهم في القريب المنظور.
صحيح أن حالة التدهور والاختلال الاقتصادي موروثة ضمن التركة المثقلة التي خلفها النظام البائد، إلا أن محاولة حكومة الفترة الانتقالية لإصلاح الوضع الاقتصادي وإصحاح الاختلالات قد زادت رهق المواطنين ومعاناتهم كيل بعير، ولكن رغم ذلك يبقى من واجب الحكومة أن تبذل أقصى ما في وسعها من جهد، لنشر شبكة اجتماعية بالمستوى الذي يخفف من وطأة المعاناة، كما عليها وتحديداً فيما يخص مشكلة البطالة التي وصلت معدلات كبيرة ومزعجة ومقلقة، أن تعمد وبأعجل ما يمكن لتوفير فرص توظيف للشباب أو خلق مشاريع انتاجية تخصص لهم لاستيعاب طاقاتهم تفيدهم وتفيد البلاد وتجعلهم يتخلون عن فكرة الهجرة ولو بالطريقة غير المشروعة المميتة، وبذلك تضرب الحكومة عصفورين بحجر، وفرت لهؤلاء الشباب فرص العمل من جهة وأوقفت هجرات الموت من جهة أخرى.