الخميس, نوفمبر 21, 2024
مقالات

من حكاوي ومآسي الغلاء

بقلم: حيدر المكاشفي

ضحكت ضحكاً كالبكاء، حتى (أشرقت) عيناي بالدمع، عندما سمعت أحد المكتوين بلظى الغلاء وهو يرثي حاله قائلاً: (الحالة صعبة والأكل أصبح بالعيون)، وفي تفاصيل مرثيته يقول إنه صار لا يقرب الجزارات ولا يسأل عن أسعار كل اللحوم بيضاء وحمراء، ويضيف: أما الفواكه فقد نسي حتى شكلها من طول عهده حتى بكيلو موز.. ومبعث ضحكتي الباكية على هذا الكلام، أنه ذكرني بحكاية بائع النيفة والكوارع، فحين كنا صغاراً درافين نلعب بالطين، كان يجوب حلتنا ويجوس خلالها ليلاً بائع للكوارع ورؤوس النيفة وإن شئت لغة المطاعم لك أن تقول (الباسم). كان هذا البائع ضخم الكراديس مفتول العضلات يحمل بضاعته الشهية المكونة من رؤوس البقر والضأن المطهية في طشت (طست) كبير يضعه على رأسه الكبير (المكودس الذي يشبه سرج العجلة)، وفي يده عكاز ضخم وطويل ومضبب يذب ويصد به الكلاب التي كانت تستثيرها الرائحة وتسير خلفه أينما اتجه علها تظفر بـ(كدّة)، وكان يعلن عن وجوده وينادي على بضاعته المكونة من الرؤوس والأظلاف بصيحة مجلجلة بصوته التينور الحاد: (نيييييفاااا كواااارع مزمز تاكل منو وتتمسح منو وجربان ياكل بعينو)، وبندائه هذا الذي يستثني منه (الجربانين) والتعساء كان هذا البائع من حيث يدري أو لا يدري بالديالكتيك والمنشفيك والبلشفيك يمارس الفرز الطبقي.. ذلك ما كان بشأن نداء بائع الكوارع والنيفة والذي استعاده صاحبنا هذا بمقولته (الأكل أصبح بالعيون) الذي وقع من نداء بائع النيفة (جربان ياكل بعينو) وقع الحافر على الحافر.

وعطفا على حديث الأكل بالعيون وليس الخشوم، تبقى الحقيقة التي لا مراء فيها، أن غالب السلع والخدمات ان لم نقل جميعها بلا استثناء، صارت عصية المنال لا يطالها غالب أهل البلد وخاصة الفقراء والمساكين وذوي الدخل المحدود والحيل المهدود، ولتدني القوة الشرائية وانعدام السيولة تظل اللحوم معلقة على شناكل الجزارات، وأرفف المحال التجارية تنوء بالبضائع وضرب الكساد والبوار كل شيء، ثم لا مشترٍ اللهم الا من قلة قليلة من ذوي الحظوة والبسطة في المال، أليس بربكم ما قاله صاحبنا الساخط القهران والغاضب على الحال، هو عين ما قاله بائع الكوارع والنيفة: (جربان ياكل بعينو)، ومعاناة أهل هذا البلد منكود الحال والمنكوب بنخبه، ومن يقفزون إلى قيادته، ظلت على الدوام تلهمهم هذه معاناتهم ببعض الحلول الإبداعية الشعبية، في مجالات عديدة نذكر منها على سبيل المثال الطعام ومنه (أم بلقسات) المكونة من أرجل الدجاج وأطرافه وأحشائه، و(ساندوتش الموز) وغيرها من أطعمة شعبية فقيرة المحتوى، ابتكرها الفقراء لإسكات قرقرة بطونهم وإبقائهم على قيد الحياة، ولكن أياً يكن تواضع ومحدودية مثل هذه الحلول الشعبية، إلا أنها تبقى متقدمة ومتفوقة على الخيال الرسمي الذي ظل عاجزاً عن إبداع وابتداع أي حلول لمشكلات هذا البلد وقضاياه التي ما انفكت تعيد نفسها وتتكرر على مر السنين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *