الحكومة الانتقالية.. تحديات عديدة وخيارات شحيحة
الخرطوم: حسين سعد
إنحدرت الأوضاع المأزومة في السودان إلى مزيد من التعقيدات المخيفة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وتفاقمت في ذات الوقت الأوضاع المعيشية الخانقة وتزامنت كل تلك الأزمات المركبة مع قضية شرق السودان وتصاعد المواجهات بين المدنيين والعسكريين.
ودفع هذا الصراع المراقبين للتساؤل عن مستقبل الاتفاق السياسي الموقع في يونيو 2019م بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي حول الفترة الانتقالية، إلى أن يتم انتخاب إدارة مدنية كاملة، ويشمل ذلك الاتفاق (6) فصول تتعلق بالمبادئ العامة والترتيبات الانتقالية والمجلس التشريعي ولجنة التحقيق في أحداث العنف الدامية التي ارتكبت ضد المعتصمين أمام مقر قيادة الجيش في الخرطوم يوم (3) يونيو 2019. ويتطرق الفصل الخامس من الوثيقة إلى مهام المرحلة الانتقالية بينما يتعلق الفصل السادس بالمساندة الدولية التي من شأنها حشد الدعم القوي الاقتصادي والمالي والإنساني لتطبيق الاتفاق.
مخاوف
ويتخوف البعض من أن ما حققته البلاد خلال عامين في مجال الديمقراطية والحريات قد تعصف به هذه الأزمة نظراً إلى تعقّدها، وفي ذات الوقت يلاحظ المراقب استماتة من البعض لتخريب ما تم إنجازه على الرغم من عدم الرضا وخيبات الأمل جراء عدم معالجة قضايا أسياسية مثل استكمال ملف السلام ومعالجة الاقتصاد وتكوين المجلس التشريعي وتشكيل المفوضيات وتحقيق العدالة.
تداعيات هذه الوضعية المقلقة ستلقي بظلالها على المشهد السياسي داخلياً وإقليمياً، فضلاً عن المستجدات في الملفات الإقليمية والدولية.
دعم دولي
ومن جهتها أكدت الإدارة الأمريكية حرصها على أن يتولى المدنيون قيادة المرحلة الانتقالية، وهو الأمر الذي لم تختلف فيه إدارة الرئيس بايدن عن إدارة الرئيس ترمب، فقد أقر مجلس النواب الأمريكي في ديسمبر 2020 قانون التحول الديمقراطي والمساءلة والشفافية المالية في السودان، والذي يسمح للرئيس الأمريكي بدعم مجلس الوزراء الانتقالي السوداني من أجل تعزيز سيطرة الحكومة المدنية على أجهزة الأمن والمخابرات، إضافة إلى دعم الرقابة المدنية على أصول الهيئات العسكرية السودانية، وإنهاء مشاركة الأجهزة العسكرية والأمنية في قطاع التعدين، والحد من الحصانات لمنتسبي هذه الأجهزة في جرائم حقوق الإنسان.
والحكومة الحالية حكومة محاصصة، وُلدت نتيجة مساومات بين مختلف مكونات الحرية والتغيير ثم ألحق بها حركات الكفاح المسلح عقب توقيعهم على اتفاق سلام جوبا في أكتوبر 2020م، وكان البعض يرون أن هذه الحكومة سوف تنتشل البلاد من أزماتها لكننا كنا نرى عكس ذلك حيث كتبت في فبراير 2020م تحليل تحت عنوان (وحدة قوى الحرية والتغيير ومستقبل الثورة)، حيث قلت إن هناك تحديات عديدة تواجه مكونات قوى الحرية والتغيير، وتتصاعد حدة الخلافات يوماً بعد يوم، وتتزايد معها نقاط الخلاف، ولا ينحصر تأثير التجاذبات بين مكونات الثورة حول المجلس التشريعي وولاة الولايات فقط، وإنما تعداه إلى قضايا أخرى تكشف عن خطر مستقبل تحالف قوى الثورة، كما يعكس خطر تعاظم التباينات الداخلية أيضاً إشكالية عميقة حول استقرار الفترة الانتقالية في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد، فضلاً عن تربص القوى المضادة للثورة التي تفاقم من حجم التباينات وزعزعة وحدة قوى الحرية والتغيير، وتفتيت الثورة وإجهاضها عبر إثارة الخلافات والتباينات والانقسامات فيما بين مكوناتها.
صحيح أن مكونات الحرية والتغيير ترتكز على أيدلوجيات مختلفة وهذا طبيعي أن تكون هناك تباينات لكن الأمر المثير للانتباه هو أن تظهر هذه الخلافات والتباينات قبل أن تطوي الثورة عامها الأول وقبل تحقيق أي من أهدافها المعلنة في إعلانها، وحالياً تعمقت الخلافات بين قوى الثورة وظهر ذلك في الحرية والتغيير (أ) والحرية والتغيير(ب)، وطال الخلاف لجنة إزالة التمكين وتفكيك نظام الثلاثين من يونيو نفسها، بل أن أحد الأطراف ساند العسكريين.
ومن ناحيتنا نرى أن هذه الخلافات سوف تنتقل إلى الجهاز التنفيذي وسيؤدي ذلك الي تعطيل دولاب العمل البطيء أصلاً، حينها ستكون الحكومة أشبه بالذي يتحرك في حقل ألغام، والكاسب الوحيد من هذه الوضعية حتى الوقت الراهن هو المكون العسكري لأن موازين القوى تميل لصالحه وتعكس تصريحات رئيس مجلس السيادة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان الخاصة بتوسيع المشاركة وحل الحكومة ذلك الاتجاه، بينما تميل موازين القوى الخارجية والداخلية (الشارع) للمدنيين، وسنحاول من خلال هذه المساحة تلمس السيناريوهات القادمة، وبحسب المعطيات نحن أمام (3) سيناريوهات.
السيناريو الأول.. التوافق
يفترض هذا السيناريو استمرار الشريكين، العسكري والمدني، في تنفيذ التزاماتهما بحسب الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية المعطوبة، فلقد سبق أن تم خرق الوثيقة الدستورية نفسها، المؤشر الآخر انقسام الحرية والتغيير وانقسام تجمع المهنيين ودخول حركات الكفاح المسلح الذين توزعوا ما بين مكونات الحرية والتغيير، لكن هذا السيناريو يواجه عدة عقبات وإمكانية نجاحه تتطلب وقف التراشق الإعلامي بين الطرفين ووجود إرادة سياسية ومراجعة أوجه القصور وتحمل المسؤولية والنظر إلى مستقبل البلاد والابتعاد عن المحاصصات والشلليات.
كما أن هناك عامل مهم وهو المجتمع الدولي الذي سيدفع في طريق استعادة العلاقة الضعيفة بين المكونين المدني والعسكري، وهذا هو المؤشر الواضح لرجحان هذا السيناريو، وبدأ الاهتمام الإقليمي والدولي غير المسبوق بالأوضاع في السودان في ظل ما تحمله البلاد من أهمية استراتيجية للعديد من المعادلات الاستراتيجية في البحر الأحمر والشرق الأوسط وشرق أفريقيا، بجانب حالة السيولة والفوضى الإقليمية كما أن منطقة القرن الأفريقي تمر بمرحلة من عدم الاستقرار والعنف التي قد تهدد أمن المنطقة وما حولها. ويربط ذلك مع الحرب الأهلية في كل من أثيوبيا وجنوب السودان، ونقاط حدودية ملتهبة على طول المنطقة، في ظل وجود تذمر شعبي واسع النطاق بسبب الصراعات العنيفة من جهة وتبعات (جائحة كورونا) من جهة أخرى.
وتعتبر منطقة القرن الأفريقي من أهم المناطق الجغرافية في العالم، لكونها تتميز بموقع استراتيجي يطل على ممرات مائية هامة، فضلاً عن امتلاكها موارد طبيعية زاخرة، وقربها من مضيق باب المندب المتحكم في البحر الأحمر، مما جعلها محطَّ أنظار العالم لا سيما القوى العظمى.
ولعكس التحركات الإقليمية والدولية يمكن الإشارة إلى مبادرة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بإيفاد جيفري فيلتمان مبعوث الرئيس للقرن الأفريقي إلى الخرطوم في (29) من سبتمبر الماضي، وقد جاءت الرسائل التي نقلها فيلتمان، على قدر كبير من الوضوح والحسم؛ إذ تضمنت إدانةً كاملة للمحاولة الانقلابية الأخيرة، وتشديداً على أهمية التعاون بين جميع شركاء المرحلة الانتقالية، والتذكير بأهمية الدعم الدولي لنجاح استكمال الانتقال السياسي، بالإضافة إلى التهديد الضمني الذي نقله فيلتمان بأن تدهور الأوضاع في السودان قد يؤدي إلى توقف الكونجرس الأمريكي عن دعم البلاد، وأن التعاون الحقيقي بين الشركاء الانتقاليين هو الضامن لسلاسة الانتقال ولحفاظ السودان على موقعه الذي استرداه في المنظومة الدولة بعد عملٍ شاق.
وقد سبقت زيارة المبعوث الأمريكي للخرطوم زيارة للمبعوث الفرنسي جان ميشيل دوموند في (27) سبتمبر الماضي تضمنت التشديد على مبادئ مشابهة؛ في مقدمتها أهمية التعاون بين الشريكين المدني والعسكري لضمان استكمال المرحلة الانتقالية.
ولم تقتصر الرسائل الخارجية للسودان على التحذير والتهديد الضمني، بل تضمنت كذلك زيارة رئيس البنك الدولي ديفيد مالباس للخرطوم في (30) سبتمبر الماضي مُتعهداً بتخصيص ملياري دولار في صورة منح للسودان في عام 2022 وبتعزيز تعاون البنك مع السلطات الانتقالية في السودان لتحسين الظروف المعيشية بصورة عاجلة.
وتُضاف هذه التحركات إلى الاجتماع الذي نظمته بعثة النرويج في الأمم المتحدة برعاية الأمين العام للمنظمة أنطونيو جوتيريش في مقرها بنيويورك في (30) سبتمبر، والذي يحمل اسم (دعم الانتقال المدني الديموقاطي بالسودان).
السيناريو الثاني.. إنزلاق البلاد للفوضى
هذا السيناريو وارد ولديه مؤشرات من بينها انتشار السلاح ووجود خطاب كراهية والأخبار الكاذبة وسلام المسارات وانعدام الثقة بين المدنيين والعسكريين، بجانب أعداء الثورة الذين يستغلون أية فرصة لتعكير الأجواء، وهناك أيضاً التنافس والتسابق الإقليمي والدولي والتصعيد بين المدنيين والعسكريين في الخرطوم.
وتشجع مثل هذه الأوضاع المضطربة وحالة السيولة الأمنية بظهور تحالفات جديدة تهدد استكمال المرحلة الانتقالية، كما تشكل هذه الوضعية الفوضوية فرصة ذهبية لانقلاب عسكري ناجح، أو احتجاج يعزل أحد الأقاليم الطرفية عن سلطة المركز نهائياً، وهنا يمكن الإشارة إلى المطالبة التي ظهرت في شرق السودان بتقرير المصير.
وعلى الصعيد الإقليمي هناك حالة سيولة أمنية ببعض دول الجوار مثل إثيوبيا وتشاد وليبيا وجنوب السودان وأفريقيا الوسطي ومالي، والمؤشر الآخر هو نشاط جماعات مصنفة إرهابياً بالناحية الغربية للسودان، وهذه الجماعات هي (تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى) التي أُسِّستْ في 2015 وتنشط في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، و(تنظيم الدولة الإسلامية-ولاية غرب إفريقيا) “بوكو حرام”، التي تنشط في نيجيريا والكاميرون وتشاد والنيجر، وجماعة (نصرة الإسلام والمسلمين) وهي موالية لجماعة (تنظيم القاعدة) في الساحل الإفريقي، ولمواجهة هذه الجماعات، اتفقت (5) دول في الساحل، في 16 فبراير2014، في نواكشوط بموريتانيا على تأسيس جبهة موحدة باسم (مجموعة دول الساحل الخمس)، وذلك بدعم وترويج قوي من فرنسا.
ورغم أن هذه المجموعة تتكون من بوركينا فاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر، إلا أن الهجمات قد تصاعدت.
ونخلص إلى أن عوامل هذا السيناريو موجودة لكننا نستبعد رجحانه.
السيناريو الثالث.. انفراد العسكريين بالحكم
من مؤشرات هذا السيناريو استمرار التصيعد بين بين شريكي السلطة الانتقالية، وفشل جميع الوساطات الرامية لحل الأزمة وتعطيل اجتماعات مجلس السيادة وتصريح البرهان بقوله إنه لا حل إلا عبر حل الحكومة وتوسيع قاعدة المشاركة، وكذلك هناك تصريحات سابقة لكل من البرهان وحميدتي وهجومهما على المكون المدني، حيث قال البرهان: أنا بالقوات المسلحة منذ 41 عاماً، جبت كل أصقاع السودان، وأصبت 6 إصابات، وأضاف، خلال افتتاح مجمعات بمركز السودان للقلب يوم الأحد 26 سبتمبر 2021م: لا أتشرّف أن أجلس مع ناشط أو شخص يُشكِّك في ولائي للوطن، أو يقول إننا نخصم من رصيده الشعبي، وهو حديثٌ لم يكن يتوقّع أن يصدر من شخص مسؤول في الدولة)، وذكر أن القوات المسلحة لن تنقلب على ثورة ديسمبر.
وأيضاً نقرأ تصريحات حميدتي لدى تقديم واجب العزاء في نجل عبد الله البلال بمنطقة شرق النيل، يوم السبت 25 سبتمبر 2012م حين قال إن الحديث عن العسكر بأنهم خصموا من الرصيد السياسي للمدنيين بالسلطة مرفوض، وتابع: (يقولوا نحن خصمنا من رصيدهم السياسي.. إنت القوة لقيتها من وين؟.. القوة دي ما أديناك ليها نحنا ديل.. نحن من منحناهم القوة، لكن أثبتنا أننا غفرا)، وتساءل: (معقول إنت زول حاميه يجي يقول ليك نحن خصمنا من رصيده السياسي، يعني نحنا نكرة؟، والله تاني ما نقعد معاه في تربيزة واحدة تاني.. إلا بالوفاق)، وأردف: صبرنا صبر .. لن نسكت عن الحق .. الرهيفة تنقد .. طفح الكيل .. لن يهددونا بالشارع .. ما بنلبس الكاكي بنلبس قميص (كت).
أيضاً هناك مؤشر آخر وهو الانقسامات في الحرية والتغيير وبروز شكاوى من الإقصاء، وقد يدفع ذلك لتشكيل تحالف بين الطرفين (المحتجون من قوى الحرية والتغيير والعسكريين) للسيطرة على السلطة وإقصاء المجموعة الأخرى من قوى الحرية والتغيير، هذا السيناريو أقرب للحدوث بناء على مؤشراته لكننا نستعبد وقوعه لأنه سيواجه بمعارضة خارجية كبيرة، وقد تقع البلاد في عزلة دولية جديدة لن تخرج منها إلا بتكلفة هائلة.
المؤشر الذي يؤكد صحة ما ذهبنا إليه هو مسارعة المجتمع الدولي إلى أصدار بيانات أدان فيها ما وصفها بالمحاولة الانقلابية الفاشلة التي قال إنها تعتبر نكسة في مسار الثورة التي تواجه تحديات عديدة.
ويأمل البعض في أن يطوي السودان صفحة الاستيلاء على السلطة بالقوة العسكرية، كما يؤثر الانقلاب على السلطة في السودان بدول الجوار الأفريقي والعربي والعالم أجمع، خاصة أن السودان يعتبر دولة مطلة على البحر الأحمر وقد يتسبب الانقلاب في زعزعة الاستقرار في المنطقة المعرضة لهجمات الجماعات الإرهابية العنيفة المنتمية لتنظيمي القاعدة وداعش، والتي تصاعدت وتيرتها.
الخاتمة:
الانتقال الديمقراطي يواجه عثرات كبيرة في بلادنا فكلما تقدمت خطوات إلى الأمام ونحو بناء مؤسساتها واستعادة مكانتها إقليمياً ودولياً، تخطو خطوات أخرى نحو الاتجاه المعاكس، وهو ما تقبع فيه حالياً من الفشل السياسي ومخاوف متجددة من عودة الحرب الأهلية إلى البلاد، بعد هدوء نسبي مكَّن السودانيين بعد الثورة من التقاط أنفاسهم أخيراً ، فاليوم يواجه السودانيون خيارين أحدهما مُرٌّ، فإما أن تذهب الأطراف المتصارعة إلى استكمال الانتقال الديمقراطي وحل خلافاتها بهدوء، أو أن تتجه البلاد نحو عسكرة المشهد السياسي واللجوء إلى لغة الرصاص بدل الحوار، وهو سيناريو ذاق السودان كأس مرارته، الحكومة الانتقالية وإن شابتها الكثير من الأخطاء والتقصير، وبالرغم من كل هذه التحديات إلا أنها بقيادة رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك، نجحت في ملفات مهمة من بينها ملف الإرهاب والديون فالتركة الموروثة من النظام المخلوع مثل التهريب والفساد والتضخم، وتراجع معدلات النمو، وارتفاع معدل الفقر، إضافة إلى التأثيرات الحديثة (جائحة كورونا)، وكل هذه المعطيات وضعت الحالة السياسية أمام تحديات اقتصادية متعددة لا تقل خطراً عن التحديات السياسية، أدت إلى حالة من خيبة الأمل الشعبي في الأطراف السياسية جميعها ولا يبدو في الأفق حلّ قريب للأزمات الكثيرة التي تحيط بالسودانيين إحاطة السوار بالمعصم، لكن ما هو مؤكد هو أن إيجاد حلّ للأزمة المركبة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً سيكون مدخلاً إلزامياً لإيجاد الحلول للأزمات الأخرى التي تضيّق الخناق حول رقاب السودانيين.