الخميس, نوفمبر 21, 2024
تقاريرسياسة

التعثر الديمقراطي في السودان.. كتاب جديد للبروفيسور عطا البطحاني (1)

الخرطوم: حسين سعد

دشن المركز الإقليمي للتدريب وتنمية المجتمع المدني يوم السبت الماضي كتاب أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم د. عطا البطحاني، وشارك في سمنار التدشين الخبير القانوني د. عبد السلام سيد، وأستاذة العلوم السياسية د. أفاق محمد صادق، إلى جانب الكاتب الصحفي الحاج وراق، وعدد من قيادات الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والناشطين السياسيين ولجان المقاومة والتنظيمات النسوية والصحفيين.

وأهدى البطحاني كتابه إلى (الشفاتا والكنداكات والجيل الراكب راس)، ويقع الكتاب في 124 صفحة شملت مقدمة من الناشر (المركز الإقليمي للتدريب وتنمية المجتمع المدني) كتبها مديره العام د. عبد المتعال قرشاب، ومقدمة أخرى لكاتب الكتاب د. عطا البطحاني، واستعرض الكتاب استقرار وانهيار الأنظمة الديمقراطية وتجارب الديمقراطية وأسباب فشلها.

ولأهمية الكتاب وتوقيته تستعرضه (مدنية نيوز) في سلسلة من الحلقات.

مقدمة الناشر

وكتب المدير العام للمركز الإقليمي للتدريب وتنمية المجتمع المدني د. عبد المتعال قرشاب مقدمة الناشر التي استهلها بالترحم على أرواح (شهدائنا الأبرار الذين مهروا بدمائهم الذكية ثورة ديسمبر المجيدة، والتي جاءت بعد مخاضٍ طويل وعبر تراكم النضال الذي امتد إلى أكثر من ثلاثة عقود من الزمان، كما نتمنى الشفاء العاجل للمصابين والعودة بالسلامة للمفقودين من أبناء وبنات هذا الوطن).

وأوضح المدير العام للمركز أن تصميم وطباعة ونشر هذا الكتاب (التعثر الديمقراطي في السودان) يجيء ضمن جهود المركز الإقليمي للتدريب وتنمية المجتمع المدني في دعم التحول الديمقراطي في السودان وبناء دولة المواطنة والمؤسسات وحقوق الإنسان بالشراكة مع المؤسسة الدولية للديمقراطية ومساعدة الإنتخابات، وضمن دوره في التوعية والتبصير وإحداث التغيير في المجتمع وبناء القدرات لتحقيق شعارات الثورة: حرية، سلام وعدالة.

وينسب المؤلف بروفيسور عطا الحسن البطحاني، حالة الفشل هذه إلى فشل نخبة ودولة ما بعد الاستقلال في إنشاء نظام حكم ديمقراطي؛ كما نسبه إلى ما أسماه بالعجز البنيوي لكتلة القوى المسيطرة تاريخياً في السودان وتدوير إنتاج هذا العجز في كل مرحلة انتقال لتجربةٍ ديمقراطيةٍ جديدة.

ويطرح المؤلف في غمرة هذه المرحلة الانتقالية الحرجة، وحالة الانسداد السياسي، العديد من الأسئلة الملحة والهامة ويجيب عليها في متن الكتاب الذي يجيء في وقتٍ وكل السودانيين في أشد الحاجة لمعرفة الإجابة عليها:

– لماذا تفشل الطبقة السياسية في استلهام القيم التي تحملها الهبات والثورات الشعبية عند وصولها إلى كراسي السلطة؟.

– ما هي الأسباب التي تقعد بالقيادة عن القيام بمهامها التاريخية وترتقي ببلادها اأسوة ببقية الدول؟.

– هل هناك سبب واحد أم حزمة أسباب: سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية؟.

– هل ستنجو التجربة الديمقراطية القادمة، إن تم لها ذلك، من عدم التعثر والفشل الديمقراطي؟.

– ثمّ ما هو المطلوب لتحصين الفترة الديمقراطية القادمة؟.

وبما أننا نتفاكر حالياً في السودان عن نظام الحكم الذي نريده مستقبلاً، والنظام السياسي والنظام الانتخابي المناسبين للسياق السوداني، وكذلك الاستقرار الدستوري، فلابد الأخذ بعين الاعتبار ما جاء في هذا الكتاب حول عناصر المتغيرات الرئيسية (المؤسسية، المجتمعية، التوسطية والخارجية) التي قد تؤدّي إلى فشل ونجاح الأنظمة الديمقراطية؛ والتي يلخّصها المؤلف في:

– غياب العقيدة الدستورية، أي التنكر من أطراف السلطة السياسية للأسس الدستورية و الاتفاقيات.

– دور عامل الهوٍية في تعثر الديمقراطية، من خلال تسييس الانتماء العروبي- الاسلامي بواسطة النخب المتعلمة والناشطة سياسياً وثقافياً في الساحة السودانية.

– الاستثمار في النزاعات وعدم الاستقرار.

– الخلل الهيكلي في السلطة والتنمية، ويمثله ظاهرة التناحرات وتشكيل المجموعات والتكتلات المتشرذمة والانشقاقات وقصر النظر لدى الطبقة السياسية.

كشف حال الأحزاب

وأوضح البطحاني، في استهلال له في كتابه بقوله: لقد أدخلت الإنقاذ الشعب السوداني في أحدى نوازل تاريخه الحديث، وكان لابد أن يبحث عن الحرية ليستعيد روحه، ويجسد استعادته لروحه، والتطلع لمستقبل هو كاتب نصه ومخرجه. وجاءت ثورة ديسمبر 2018 وبفضل جسارة الشباب تتهيأ الآن للشعب التعبير عن إرادته الحتمية ولِينهض ليأخذ مكانه في الجانب الصحيح للمجرى الموضوعي لحركة التاريخ تحت ظلال الدولة المدنية.

أخذ عنوان الكتاب بحسب المؤلف (التعثر الديمقراطي) مستعرضاً أسباب فشل الطبقة السياسية خلال فترات الحكم الحزبي التعددي. (كشف حال الأحزاب السياسية)، لا يعني بالمرة تزكية لحكم العسكر، فلسنا نحن بصدد مقارنة أداء الحكم المدني والحكم العسكري، وإن تطلب الأمر ذلك فالخاسر بِلا شك حكم العسكر. يكفي أن الحكم العسكري الإسلامي تهاون فى الحفاظ على ااستقلال ووحدة الوطن وقبل مقايضة البقاء في السلطة على حساب السيادة الوطنية، ومزق النسيج الااجتماعي، وأضعف سلطة الدولة المركزية وفقدت مؤسسات الخدمة المدنية هيبتها وفعاليتها الوظيفية وحلت الولاءات الأولية والعشائرية والقبلية والجهوية محل الولاء للوطن الواحد، وصرنا وكأننا نتقدم إلى الخلف، وقال عطا إن الموقف الصحيح من حركة التاريخ يعبر عنه شعار ثورة ديسمبر الذي تجسده المناداة بالدولة المدنية، ولكن للدولة مطلوباتها التي تشمل، ضمن ما تشمل، (مشروع وطني) وطبقة سياسية ترتفع قيادتها لمقام اللحظة التاريخية التي يستصرخها هتاف (الحصة وطن).

إخفاقات الماضي

يعدد الكتاب اخفاقات الماضي وفشل التجارب الديمقراطية بهدف تجاوز الفشل والتعلم من دروس التاريخ، واِلا فاِن للتاريخ منطق وقطار- أي القبول بحتمية مساره العقلاني (المدني) وإما الانسحاق والموت تحت عجلاته. لكن ما يبعث على الأمل أن للقوى الحية في المجتمع، كشباب الشفاتة والكنداكات، من التصميم والمقدرة على دفع ثمن تذكرة رحلة الانتقال من العسكرة والأمننة إلى المدنية وحكم الشعب، ونأمل أن يتوفر الوعي والقيادة للانتقال إلى الحكم المدني – الديمقراطي كامل الدسم.

وفي مقدمة البطحاني لكتابه أشار إلى أن مقولة فشل تجارب الحكم الديمقراطي – النيابي في السودان لا تحتاج لعناء كبير للتحقق من صحتها. فالحكومات الحزبية التي جاءت للحكم بعد الانتخابات بعد الاستقلال (1954-1958، 1965-1969، 1986-1989) أثبتت فشلها وبعضها لم تكمل دورتها فى الحكم. وما يثير الدهشة أن هذه الانتخابات، خاصة في الستينيات والثمانينيات جاءت بعد فترات انتقالية دشنتها ثورات شعبية نجحت في إسقاط الحكم العسكري، إلا أن أداء الحكومات الديمقراطية جاء سالباً، بالرغم من التأييد الذي حظيت به عند انتخابها. وبدا العجز بائناً في إنجاز المهام التاريخية التي طرحتها الحركة الوطنية على نفسها: استكمال تشكيل الهوّية الوطنية وحماية وصون استقلال البلاد، إقامة دولة المساواة والمواطنة المدنية العصرية التي لا تميز بين مواطنيها وفئاتها الاجتماعية والنوعية والمناطقية، وإرساء البنية الخدمية والانتاجية لاقتصاد مستقل يعمل على توفير السلع والخدمات الأساسية ويقود للتنمية المتوازنة والمتكاملة.

تمزق الأحزاب

وأحصى الكاتب أسباباً عديدة وراء تدني أداء وفشل الحكومات الحزبية- المدنية، ربما من أبرزها الخلافات والتشرذم بين الأحزاب وحتى داخل الأحزاب بين الأجنحة والأسر المتصارعة على القيادة ومصالحها الذاتية الضيقة على حساب المصلحة العامة، وضعف الأداء التنفيذي للمسؤولين السياسيين. وبسبب الصراع على المصالح والمنافع لم تستطع الطبقة السياسية، حكومة ومعارضة، التوافق على قواعد تحكم اللعبة السياسية. هذه الإخفاقات، إضافة لتدهور الاقتصاد وتفاقم النزاعات المسلحة خاصة في الأقاليم التي تشكو غبنا تاريخياً وسياسياً وتنموياً، هذه الأسباب تهييء لتدخل القوات المسلحة – غالباً باِيعاز من القوى الحزبية نفسها – للانقلاب على التجربة الديمقراطية.

الدائرة الشريرة

ويمضي الكاتب للقول: للمفارقة، وفي أغلب الأحيان يحظى تدخل الجيش في السياسة فى الأيام الأولى بدرجة من دعم أحزاب سياسية وتأييد شعبي بأمل أن تعمل الحكومات العسكرية على معالجة الأجندة الوطنية التي عجزت الأحزاب عن معالجتها. ولكن كما أتضح أن النظم العسكرية تنتهج سياسات تفاقم المشاكل وتؤدي لمزيد من الأزمات، هذا إضافة لطابع القهر والتسلط المميز لحكمهم. كل ذلك يدفع بالقوى النقابية والمهنية، وتلحق بها القوى السياسية، في حراك شعبي وانتفاضات جماهيرية تقود لفترة انتقالية تعقبها انتخابات تقود لحكومة مدنية ضعيفة، تفتح شهية التدخل العسكري وتتوالى حلقات (الدائرة الشريرة) بين نظم حزبية ضعيفة ونظم عسكرية فاشلة تفصل بينهما انتفاضات وثورات شعبية، وتقارب حالة الفشل هذه حالة نموذجية لفشل نخبة ودولة ما بعد الاستقلال في بناء نظام ديمقراطي، ويرجع هذا الفشل لما يمكن تسميته بالعجز البنيوي لكتلة القوى المسيطرة تاريخياً في السودان وإعادة انتاج هذا العجز في كل مرحلة انتقال لتجربة ديمقراطية جديدة. وتتوفر العديد من الشواهد على الطبيعة البنيوية للأزمة السياسية في السودان، بمعنى أنها ذات صلة بتكوين الطبقة السياسية وخوفها من التغيير، مع عجزها عن مواكبة تطلعات الفئات الحيوية والصاعدة في المجتمع. يتجلى ذلك في أحد مظاهره في تأرجح ميزان القوى وهشاشة الترتيبات السياسية والدستورية المصاحب لفترات الانتقال، التي تساهم مع عوامل أخرى، في فشل فترات الانتقال وذلك بقيام (الأحزاب الديمقراطية) بتغليب وتعظيم الفائدة الحزبية الضيقة، والعجز عن التضامن والتحالف مع القوى الاجتماعية الحية، فتفتح الباب للتدخل العسكري، وتأتي الهبة الشعبية لاِسقاط النظام العسكري وتفتح الباب لانتقال سياسي تالِ وجديد. اِلا أن مهام (الإنتقال) التالي تزداد صعوبةً وتعقيداً بقيام الأنظمة العسكرية بتصفية القوى الوطنية والديموقراطية في كل مرة تعتلي فيها كراسي السلطة حيث يبز كل نظام عسكري فى هذا المجال من سبقوه بتعميق النزاعات وتهديد استقلال ووحدة الوطن، فيتآكل الرصيد التراكمي للديموقراطية والثقافة المدنية، وبالتالي تتعاظم المهام وتقصر القامة.

ويرى البطحاني في كتابه أن الحكومات الحزبية التي تعقب الفترات الانتقالية لا تفشل فقط في الأجندة الوطنية المطروحة على الطبقة السياسية (وحدة الوطن، الدولة المدنية- العصرية، التنمية الاقتصادية)، بل أن أداءها يبدو أضعف مقارنة بما خلفته الحكومات السابقة، اِذ تواصل في ممارساتها السابقة بما يشوِه منظومة الحكم الديمقراطي لدى المواطن. ويبدو أنها لا تأخذ دروس من التجارب السياسية، فتعيد الكرة وتعود الممارسات السياسية لسابق عهدها وكأن شيئاً لم يحدث وبهذه الذهنية، تتجاهل القيادات التحولات التي حدثت في المجتمع العريض ولا تستجيب للمتغيرات وتتعامل معها بذات العقلية. حدث ذلك بعد ثورة أكتوبر 1964، وأعادت ذات التجربة بعد اانتفاضة أبريل 1985، والخشية كل الخشية أن تكرر الطبقة السياسية ذات الممارسات بعد ثورة ديسمبر 2018. لا نقول ذلك من باب التشاؤم والإحباط ولكن من باب الحذر والتنبيه إن لم يحدث تغيير حقيقي في مفهوم وممارسة العمل العام مسنوداً بقوى ااجتماعية ذات تنظيم قاعدي ولها مصلحة في التحول الديمقراطي. (يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *