كثرة المبادرات.. وطنية زائدة أم حسد
الخرطوم: نصر الدين عبد القادر
أيام قليلة ويكمل السودانيون ستة أشهر على وأد حلمهم بالتحول الديمقراطي لتأسيس دولتهم المدنية التي صارت مثل ثلاثي المستحيل “الغول والعنقاء والخل الوفي” في هذا الزمن العجيب.. ولأنّ العجائب في هذه البلاد لا تنقضي، أصبحت المبادرات يبن عشية وضحاها والتي تدعو لحلحة أزمات السودان واختناقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتهديد وجوده في الخارطة الكونية أكثر من عدد السنوات التي عاشها السودان في ظل الاستعمار والحكومات الوطنية.. لتبرز عدة تساؤلات من بينها: ما الذي يعنيه هذا التكاثر؟ وما معنى أن يتشبث كل جسم بمبادرته متخندقا حولها في حين أن المشتركات بين جميع المبادرين أكثر من المختلف حوله، والغاية واحدة والهدف واحد؟ كل هذا والطرف الممسك بالسلطة يسعى بكامل قواه لتثبيت أركان سطوته على المشهد وتوسيع قاعدة مناصريه بشتى الوسائل.. فما الحل؟ وكيف يمكن لنا قراءة هذه المبادرات في ظل الواقع السوداني المضطرب؟
النخب السودانية ومتلازمة الفشل
إذا كانت المبادرة هي الإقدام على فعل شيء لم يسبقك إليه أحد بغية الوصول إلى نتيجة ما.. فإنّ تعدد المبادرات بتعدد اللاعبين في المشهد السياسي السوداني.. وفي ظل هذا الراهن المضطرب سياسيا والمختنق اقتصاديا والمتأزم اجتماعيا كل ذلك يجعل فرص نجاحها محفوفة بالفشل، الذي صار من سمات النخب السياسية في السودان، مما حدا بالمفكر السوداني الراحل منصور خالد من إصدار مؤلف كبير اختار له اسم ” النخب السودانية وإدمان الفشل” وهو من الكتب الأكثر شجاعة وأهمية في نقد التجربة السياسية من لدن جيل آباء الاستقلال وحتى ساعة الكتابة هذه.. حيث تتكرر التجارب الفاشلة بالمليمتر.. وهذا ما استشهد به أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم البروفيسور عطا البطحاني في أنّ السودان أكثر الدول تعددا في الفترات الانتقالية حيث عاش التجربة أكثر من خمس مرات منذ ما قبل الاستقلال. هذه النقطة تشير بما لا يدع مجالا للتشكيك لتأكيد ذهب إليه منصور خالد في وصفه لصفوة الأمة السودانية بالفشل، حيث لا يمكن لعاقل تصور أن أحدا جرب شيئا خمس مرات متتالية بذات الأدوات وهو ينتظر نتيجة مختلفة.. لذلك رأى كثير من المراقبين والمهتمين بالشأن السوداني أن يترك السياسيون الساحة لتجربة شباب ثورة ديسمبر عساهم يأتون بما جديد ومختلف لخلاص البلاد من وطأة بؤسها وانحناء هامتها على مدى سنوات وأزمات سببها الأول والأخير النخبة السياسية بحسب من ينتمون إلى هذه النخبة نفسها ثم تقاطعت طرقهم بعيدا عن الوطن. بعض القوى السياسية التي تنتمي إلى النادي القديم ترى أن وجودها مهدد إذا ما تم ترك الساحة لهؤلاء الشباب وكثير منهم ينتمي إلى أحزاب تكن لهم العداء وتسعى إلى إزالتهم من المشهد هذا الأقل ما يشعر به الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل بحسب تصريح تلفزيوني لواحد من قياداته، لذلك تفاجأ الجميع بخروج السيد محمد عثمان الميرغني من قمقمه وتقديم مبادرة تحمل الحلول الناجعة لأزمات السودان المتراكمة، وهو ما قوبل بانشقاق في الرأي بين من يرى أن الرجل شخصية وطنية ذات تجربة راسخة في العمل السياسي، وبين آخرون يرون أنه متماهٍ مع المكون العسكري ويريد عبر هذه المبادرة إيجاد مخرج آمن لهم، أو على الأقل وضع ثقل في كفتهم، خاصة وأن حزبه سقط مع نظام البشير من سرج واحد.
حزب الأمة مبادرات لا تنتهي
يعتبر حزب الأمة القومي من أكثر الأحزاب تقديما للمبادرات والمواثيق لحل الأزمة السودانية منذ فترة حياة زعيمه التاريخي الراحل الصادق المهدي، لذلك كان من أول الأحزاب طرحا للمبادرات عقب انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر العام الماضي بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان والمكون العسكري بمجلس السيادة وأطراف اتفاقية سلام جوبا بمناصرة من قيادات مدنية وإدارات أهلية لم تستطع حتى اليوم تثبيت فكرة أن ما حدث تصحيح للمسار وليس انقلابا على الشرعية.. وكان المجاهرين بذلك حاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي. كان حزب الأمة القومي ضمن المكونات التي ساهمت في اتفاق (البرهان _ حمدوك) والذي عاد بوجبه الأخير لمنصبه رئيسا للوزراء بمبرر حقن دماء السودانيين التي لم تحقن مما حدا بالرجل أن يستقيل قبل أن يتمكن من تشكيل حكومته.. في مثل هذه الأجواء يرى حزب الأمة القومي حسب ما جاء على لسان رئيسه المكلف اللواء معاش/ فضل الله برمة ناصر أن مبادرة الحزب تعتبر الأكثر شمولية في تناول مشاكل السودان المعقدة، وهدفها الأسمى هو الحوار بين كافة الأطراف الأمر الذي يفضي إلى توافق تام بين السودانيين.. فبلا حوار وتقديم تنازلات يرى برمة أن الجميع سيفقد السودان، وحتى وإن تطلب الأمر تقديم ضمانات للطرف الآخر.
المتابع لحركة الحزب يلمح عدم ممانعته لفكرة الجلوس مع الانقلابيين بمختلف مكوناتهم وهو الأمر الذي يرفضه الحزب الشيوعي جملة وتفصيلا في عدم الجلوس أحد شارك أو بارك قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر، الأمر الذي تبناه الشارع الثائر عبر لاءاته الثلاث ( لا تفاوض، لا شراكة، لا شرعية) وكأنّها جاءت تعويضا للاءات الخرطوم الثلاث سنة 1967 والتي بيعت بثمن لا يعلم حتى هذه اللحظة أحد عنه شيئا.. وهذا ما جعل حزب الأمة يكبح جماحه عن التدحرج نحو العسكريين الذين سيفقدونه الشارع ربما إلى الأبد، خاصة وأن الدماء التي سالت هذه المرة أكثر فداحة لأنها جاءت بأيد لاذ بها الثوار لحمايتهم من آلة حصاد الأرواح التي كانت تعمل بشراهة في عهد نظام البشير، الذي حكم البلاد ثلاثين عاما، ثم كانت نهايته أن أدانته المحكمة بجريمة سرقة وحكم عليه بعشرة أعوام خففت لعامين نسبة لكبر سنه.. وهذا مدعاة للتفكر والتدبر ولكن لمن تعزف مزاميرك يا داوود؟
مبادرة الميرغني بعد الثمانين
يقترب الرجل من العقد التاسع من عمره، وفي هذا يقول الشاعر العباسي- عَوف بن مُحـلِّـم الخُزاعي:
إن الثمانين – وبُلِّـغْـتَـها-
قد أحوجتْ سمعي إلى ترجُمانْ
فبأي لغة ستأتي مبادرة زعيم الاتحاديين وهو في عمر يحتاج المستمع إليه إلى ترجمان، بينما هو أحوج إلى من يترجم له أصوات الشباب الثائر الذي يخرج وما يزال بصدور عارية لا يحول بينها وبين الرصاص حائل، إلا لوحة الخلود التي يرسمونها بعد رحيلهم وهي تهزم الموت .. من غير أو مضاد للسلاح.. وبذلك قد أسقطوا البشير، وهو ما فشل فيه الميرغني سواء أكان بالفعل السياسي أو الكفاح المسلح الذي جربته النخبة السياسية بلا استثناء، ولم يكن لها من الحظ سوى متلازمة الفشل.. وهو ما يخلق بونا شاسعا بين هذا الجيل (الراكب راس) وبين جيل ما قبل الاستقلال الذي يريد أن يأكل من كل خريف.. وهنا يأتي التساؤل التالي: مما معنى أن يخرج الميرغني في هذا التوقيت الحرج وهو من الذين خرجت عليهم الثورة حين كان حليفا للبشير في حكومة قاعدته العريضة؟
ولم تتوانى (قحت) في التقليل من مبادرة الميرغني لحل الأزمة السياسية بالبلاد وبحسب ما جاء بصحيفة الجريدة أفصح القيادي بقوى إعلان الحرية والتغيير المهندس عادل خلف الله رفضه لأيّة مبادرة لا تقوم على إسقاط الانقلاب، وأكد عدم تلقيهم في الحزب أي مبادرة من الحزب الاتحادي الأصل، ومشددا في الوقت ذاته على ضرورة حشد الإرادة الشعبية لإسقاط الانقلاب وإنهاء الدور السياسي للقوات المسلحة وتنفيذ الترتيبات الأمنية وبناء جيش وطني حديث ومقدر، ووضع برنامج وطني اسعافي لوقف التدهور الاقتصادي وحل الضائقة المعيشية لتخفيف الضغط على المواطنين وتوفير الظروف الملائمة لقيام انتخابات نزيهة والحرص على نظام ديمقراطي.
ومما يجدر بالذكر هو أنّ مبادرة حزب الميرغني الذي يعاني من تصدعات وانشقاقات وانقسامات كثيرة حيث تجاوز عدد الثمانية أحزاب اتحادية تدعو إلى التوافق الوطني التام بين المكونات السياسية، وهنا تأتي المفارقة السريالية، وقد يتساءل كثيرون كيف لحزب منقسم داخل نفسه بهذا التصدع والانشطار أن يجمع الآخرون على كلمة سواء. أليس الأجدر للميرغني أن يجمع شتات حزبه ابتداء ثم يسعى لجمع شتات للآخرين؟ وهنا لا بد أن نشير إلى أن مبادرة الميرغني لم تأتِ بجديد، بل تعتبر تكرار لما هو موجود في الساحة من مبادرات.
وبحسب الجريدة فإنّ القيادي بالحزب الوطني الاتحادي يوسف محمد زين كان قد وصف مبادرة الميرغني بالإيجابية وأنها تدعو للحل السياسي، مشيرا إلى ما تضمنته من دعوة إلى الوحدة الاتحادية، قائلا: إنّ هناك أكثر من مبادرة في هذا الإطار منوها بالأسباب الموضوعية التي أدت إلى الانقسامات داخل الحركة الاتحادية، ومتى ما انتهت هذه الظروف ستتحقق الوحدة بعد مخاطبة جذور الأزمة التي أدت الى ذلك.
وكان الميرغني قد دعا لتشكيل لجنة تنسيقية تُمثل فيها كافة التيارات الاتحادية ستحفظ لكل كيان أو فصيل كينونته الى أن تتحقق الوحدة الاتحادية. وفي هذا إشارة إلى الوضعية التي فرضتها بقية المكونات الاتحادية خاصة التجمع الاتحادي المعارض، والذي ساهم بصورة كبيرة في ثورة ديسمبر الأمر الذي جعله يحظى بعدد من المناصب القيادية في الدولة بمجلس السيادة والوزراء وولاية الخرطوم، وهو ما جلب للتجمع السخط الشعبي، خاصة بعد الاتهامات الموجهة إليه على أساسه تكالب أعضائه على السلطة للحصول وضع أفضل داخل الحزب في حال تحققت الوحدة الاتحادية لاحقا، وهو ما يبدو في طريقه إلى التحقق.. كل هذه العوامل قد تساعد بصورة كبيرة في فشل مبادرة الميرغني، التي قالت عنها تنسيقيات لجان المقاومة إنها لا تعنيها في شيء، في الوقت الذي رحبت فيه بها السلطة القائمة المتمثلة في رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان وحلفائه من المدنيين والعسكريين.
ومنذ تسع سنوات غادر الميرغني البلاد يعيش حياته بعيد عن صخب الخرطوم وويلاتها مقيما هنالك بقاهرة المعز.. صائما عن الكلام إلا قليلا، تضاربت الأنباء حول سلامته وصحته، حتى كشف أخيرا عن قرب عودته للسودان لإعلان الوحدة الاتحادية.
وفي تسجيل الفيديو الذي ظهر خلاله زعيم الختمية للكشف عن مبادرته جاء فيه ما يلي: “إن البلاد تمر بمرحلة دقيقة تستدعي من الجميع التوجه نحو الوفاق الوطني الشامل لتجنيبها المخاطر والمهددات، مضيفا ” إننا نعلن مع بعض القوى السياسية من أبناء الشعب السوداني طرح مبادرة وطنية تجمع القواسم المشتركة لكافة أبناء الوطن وندعو القوى السياسية والمجتمعية للقبول بها.. وتسبب الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش السوداني أواخر أكتوبر الماضي وإطاحته بالمدنيين الذين قاسموه السلطة في اختناق سياسي وفراغ دستوري لفشل الجيش والقوى المتحالفة معه في تشكيل حكومة كفاءات مستقلة واختيار رئيس وزراء.
ودعا الميرغني رئيس مجلس السيادة والأطراف السياسية لحوار(سوداني – سوداني) جامع دون إقصاء لأي جهة أو تمكين لآخر حتى تتحقق قيم ثورة ديسمبر مع التمييز الإيجابي للشباب والمرأة، وحث الفصائل الاتحادية على دعم مبادرة الوفاق وتأييد العمل التنسيقي المشترك كمرحلة أولى نحو الوحدة الاتحادية والإسهام في القضايا الوطنية لتحقيق آمال وطموحات الشعب السوداني في العدالة والسلام والحرية..
وكشف زعيم الحزب الديمقراطي عن قرب عودته للبلاد دون أن يحدد موعدًا قاطعًا، وقال: “حرصًا منا على مواصلة إسهامنا في العمل الوطني نعلن قرب عودتنا لأرض الوطن وقد كلفنا جعفر الميرغني نائب رئيس الحزب للعودة إلى السودان لمتابعة الوحدة الاتحادية، وشدد على ضرورة تأكيد مبدأ عدم الإفلات من العقاب “وفاءً لأرواح شهداء ثورة ديسمبر” كما طالب بإعلان نتائج التحقيق في جريمة فض الاعتصام.
الجزئية الأخيرة هي من مطالب الشارع الرئيسية للوصول إلى قتلة المتظاهرين وإعلان نتيجة التحقيق في جريمة فض الاعتصام وتقديم المجرمين إلى العدالة.. وهذه أيضا من أسباب تشبث العسكريون بالسلطة، خاصة في تفسير ما جاء على لسان نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو متحدثا عن ضرورة وجود ضمانات، وهذا الضمانات يرى رئيس حزب الأمة القومي فضل برمة ناصر إنها تعني عدم المحاسبة في الجرائم التي يتهم الشارع المكون العسكري.
الجبهة الثورية اللحاق بالسوق
ولم تغب الجبهة الثورية عن سوق المبادرات الذي أصبح منافسا لزحمة الأسواق ليلة العيد، حيث أطلقت في ختام فعاليات مؤتمرها التداولي، مبادرة وطنية للتوافق بين الفرقاء لحل الأزمة السودانية، تحتوي على خارطة طريق ومصفوفة للتنفيذ، حيث جاءت تحمل في طياتها حوارا عبر مرحلتين، الأولى بين شركاء الفترة الانتقالية المنصوص عليهم في الوثيقة الدستورية بهدف التوصل إلى حكومة تدير الفترة الانتقالية.
أما الثانية فتتضمن حوارا بين القوى السياسية يفضي إلى إنتاج مقاربة بشأن الموضوعات التي تختص بنظام الحكم والدستور والانتخابات”، وفق البيان. وطالب البيان بضرورة وقف العنف ضد المتظاهرين وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين من القوى الثورية ورفع حالة الطوارئ.
كما أنّ الجبهة الثورية أبدت ترحيبها بأية تعديلات على الوثيقة الدستورية شريطة ألا تمس اتفاق جوبا لسلام السودان.
وشدد البيان الختامي على التنفيذ الكامل لاتفاق جوبا باعتباره لا يتجزأ، وأشار إلى أهمية تنفيذ بند الترتيبات الأمنية للوصول إلى جيش وطني موحد.
ونوه البيان إلى أن الوضع الاقتصادي المتردي بالبلاد، يحتاج إلى إصلاحات عاجلة لتخفيف المعاناة واعتماد خطة استراتيجية لرفع الإنتاج وجذب الاستثمار وتفعيل التبادل التجاري.
والجبهة الثورية هي تحالف يضم نحو 7 فصائل مسلحة ومدنية، عادت جميعها إلى الخرطوم بعد سنوات من الحرب بموجب اتفاق مع الحكومة السودانية جرى توقيعه في جوبا 3 أكتوبر/تشرين الأول 2020م، وشاركت بموجبه في السلطة الانتقالية.
وعقب قرارات قائد الجيش السوداني الفريق أول عبدالفتاح البرهان، الصادرة في يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي والتي قضت بحل الحكومة وفرض حالة الطوارئ بالبلاد، احتفظ منتسبو الجبهة الثورية التي يرأسها الهادي إدريس بمناصبهم في السلطة الانتقالية، إنفاذا لاتفاق جوبا.
وشارك في مؤتمر الجبهة الثورية التداولي في الروصيرص كل من مالك عقار، والطاهر حجر، والهادي إدريس، وهم أعضاء بمجلس السيادة، فيما سجل مني أركو مناوي وجبريل إبراهيم غياباً لافتاً.
مبادرة مديري الجامعات في مهب الريح
كانت مبادرة مديري الجامعات من المبادرات القلائل التي كان يؤمل في أن تحظى بقبول واحترام من مختلف الأطراف، لجهة أنها لم تقدم حلولا جاهزة لحل الأزمة بل كان هدفها تجميع جميع المبادرات والمواثيق التي تكتظ بها الساحة وإيجاد القواسم المشتركة بينها وتحديد نقاط الاختلاف، بطريقة علمية تتسم بالحياد الإيجابي والمنهج العلمي الصارم، بعد أشهر من البحث والمقاربة حتى شارفت المبادرة عقد مؤتمرها التداولي العام، فإذا برئيس مجلس السيادة يضربها في مقتل وذلك بإعفاء جميع مديري الجامعات من مناصبهم وتكليف آخرين.
ففي المؤتمر الصحفي الذي عقدته المبادرة بقاعة “طيبة برس ” قبل شهر رمضان كان قد أفصح مدير جامعة الجزيرة البروفيسور/ محمد طه، وهي الجامع التي انطلقت منها الدعوة ليكون للجامعات والمؤسسات العلمية دورها المنوط بها في حيثما يمر السودان بمنعطف يعد هو الأخطر في تاريخه، كشف عن رؤية ورسالة وأهداف المبادرة وأساليب عملها، والجهود التي قام بها أعضاؤها خلال أكثر من ثلاثة أشهر، مشيرًا إلى أن الدور الطليعي للجامعات منذ ما قبل الاستقلال ومشاركتها القيادية في الثورات المتتالية منذ أكتوبر 1964، وأبريل 1985، ثم ديسمبر 2018، كل ذلك يحتم على مديري الجامعات الذين جاءت بهم الثورة أن يواصلوا في ذات الطريق وذلك بلملمة شتات الصف الوطني، وذلك ارتكازًا على دور الجامعات المتمثل في تخريج الكوادر المؤهل القادرة على التغيير، والبحوث العلمية، والدور المجتمعي.
وقال طه إنّ ما يميز هذه المبادرة أنها لم تأتِ بحلول جاهزة، ولكنها تتسم بالحيادية الإيجابية من جميع المبادرات التي طرحتها قوى الثورة المدافعة عن التحول الديموقراطي، وذلك بلملمتها وإيجاد القواسم المشتركة بينها ونقاط الاختلاف، مشيرا إلى أن نقاط الاتفاق أكثر من المختلف عليها وهي متعلقة فقط بالراهن السياسي للدولة، حيث بدأ عمل المبادرة من قواعد لجان المقاومة المتمثلة في التنسيقيات بكل أقاليم السودان، وتقديم الدعوة لكافة القوى السياسية التي أبدت موافقتها للجلوس في مؤتمر جامع تم تحديده موعده في الثامن من مارس الجاري تزامنًا مع اليوم العالمي للمرأة للخروج بإعلان سياسي يفضي إلى خارطة طريق بحسب التوصيات التي سيخرج بها المشاركون في الملتقى، وتكوين سكرتارية تنفيذية من الملتقى لتنفيذ المخرجات، لأن مديري الجامعات هدفهم خلق بيئة صالحة لحوار بين جميع مكونات المجتمع حتى يكون مجيء الحل من الشعب السوداني نفسه.
من جانبه رحب مدير كلية الخرطوم التطبيقية د. حسان زين العابدين بأي مساهمة تدعم تطوير آليات المبادرة، مشيرًا إلى أنهم يعملون مع مبادرة جامعة الخرطوم بتنسيق تام وليس هنالك أي تعارض أو تنافس مع أيّة مبادرة لأن الغرض الأساسي هو إيجاد حل لمشكلة البلاد.
أما مدير جامعة السودان للتقانة د. علي محمد حمدان فقال إنّ تعويلهم على لجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني وحراك الساحة كبير، وكذلك الدور المهم للمرأة حيث ارتبطت ثورة ديسمبر بالزغرودة التي ألهمت بها الكنداكات الثائرين وألهبت حماسهم حتى سقوط نظام البشير.
وتتمثل رؤية المبادرة في وطن يتمتع بديمقراطية راسخة وحكم مدني فاعل، أما رسالتها فهي مساعدة قوى الثورة على التوافق على برامج وآليات تمكن من العبور بالبلاد نحو عهد ديمقراطي مستدام وفق منهجية علمية، وتهدف إلى استعادة الطريق الديمقراطي بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، وإنجاح الانتقال الديمقراطي وصولا لمدنية الدولة الكاملة، وتحقيق الإجماع الوطني حول قضايا السودان الكبرى والمرتبطة بتأسيس وبناء الدولة السودانية، وصولا لوثيقة سياسية وخارطة طريق متوافق عليها لإنجاح الانتقال السياسي.
يجدر بالذكر أنّ الأسلوب الذي تتبعه المبادرة في جمع وتلخيص المبادرات المطروحة ليس متفردا، حيث توجد مبادرات أخرى تعمل بذات الأسلوب التلخيصي، لكن بحسب أعضائها ليس هنالك ما يدعو للقلق بشأن كثرة المبادرات، لأنّهم يهدفون لإشراك الجميع في مبادرة جامعة.
تجميع المُجمَّع
ولأنّ المبادرات التي تكتظ بها الساحة السودانية أكثر من شعر الرأس، وتتشابه في تفاصيلها وما تهدف إليه، فرأت مجموعات أخرى أن تختصر مجهودها في تجميع المبادرات الكثيرة للخروج برؤية واحدة، ومن بين هذه المبادرات مبادرة مديري الجامعات، حتى بلغت المبادرات التي تدعو إلى توحيد المبادرات العشرة.
حسد النخب
ربما يرى كثيرون أن المبادرات الكثيرة تنم عن روح وطنية هدفها السامي تخليص الوطن من براثن الطغيان والاستبداد.. لكن تاريخ النخبة السياسية يقول بعكس ذلك، ففي أربعينيات القرن الماضي كتب سكرتير مؤتمر الخريجين آنذاك د. مكي شبيكة مذكرة داخلية لأعضاء المؤتمر جاء فيها: “لقد لاحظت في الفترة الأخيرة تفشي الحسد والحقد والاحتقان بين أعضاء المؤتمر.. اتركوا كل ذلك لأنّ الأمر أمر بلادنا…” ومن بعده شكا زعيم الأنصار الراحل الصادق المهدي قصة الحسد، بل كل الزعماء يدعون أنهم محسودون لكن السؤال إذا الجميع محسود فمن هو الحاسد الذي أقعد البلاد كل هذه السنوات. ويرى الاتحاديون أن رفض اتفاقية (الميرغني/ قرنق) بأسمرا 1988م كان يمكن أن تكون اللبنة التي سيقوم عليها بنيان السودان المرصوص، لولا حسد رئيس الوزراء حينها الصادق المهدي، وصهره د. حسن الترابي الذي كان يخطط للانقلاب على السلطة، لذلك خرج في ندوة مهاجما الاتفاقية ومشيرا إلى أنه كان يفضل الموت على رؤية أحد شيوخ الإسلام يقع في أحضان علماني ملحد.. قاصدا بذلك الميرغني وقرنق، وبعد نجاح انقلابه بأشهر معدودة ذهب الترابي ووقع اتفاقية كوكادام مع نفس العلماني الملحد جون قرنق.
لجان المقاومة
يراهن كثير من المراقبين على تجربة لجان المقاومة السودانية في تقديم ما هو مختلف، حيث وجد ميثاق سلطة الشعب ترحيبا واسعا من غالبية المكونات السياسية في حين لم تجد بقية المبادرات نصف ما وجده هذا الميثاق من قبول بحسب المراقبين، وهو سنتناوله بالتفصيل خلال الحديث عن المواثيق السياسية بعد انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر من العام المنصرم.