الجمعة, نوفمبر 22, 2024
تقاريرسياسة

الصراع الإمبريالي الأطلسي الأوراسي (2)

+ أوراسيا .. تصادم جغرافية الهيمنة والتمدد

كتب: حاتم درديري

اعتبر المفكر الليبرالي اَدم سميث أن الأقتصاد هو مصير الدول والشعوب، ولكن المفهوم الروسي يرى أن المصير هو التضاريس الجغرافية لأنها تحوي الاقتصاد والعلاقات الدولية والاقتصاد والتجارة الدوليين، وبرروا ذلك لأنه يلعب دوراً هاماً في تأسيس الوجود البشري، وكانت الجغرافيا حاضرة في الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا، وكانت ميدانه أوراسيا، ووضعت استراتيجية مخصصة لها.

الرؤية الجغرافية الغربية

يؤكد المفكر الجيوبوليتيكي البريطاني هالفورد ماكيندر أن الجغرافيا هي أساس الوجود للشعوب والدول، وإذا تمددت تستطيع التحكم في العالم عبر الممرات المائية والمضائق، ولوحظ ان قارات أن قارات أوروبا وإفريقيا واَسيا تكون الجزيرة العالمية وتشغل ثلثي اليابسة من مساحة العالم.

وصف ماكيندر روسيا بالمحور الجغرافي للتاريخ لأنها تمثل الوحدة النسيجية للشرق الأوراسي والغرب الأوراسي، وهذا منحها وضعية مستقلة وخاصة فهي لا تمثل الشرق ولا الغرب.

بينما لفت أستاذ العلاقات الدولية الامريكي نيكولاس سبيكمان إلى الأهمية الجيوبوليتيكية الكبيرة التي تتمتع لأراضي الهامش التي سماها راي ميلاند ( سيبريا الشرقية “روسيا” – الصين – شبة الجزيرة الكورية – الهند – أفغانستان – إيران – العراق وشبه الجزيرة العربية) وكان يرى بأن من يسيطر على أوراسيا يسيطر على العالم.

كان هذان المفكران يتبوأن مناصب رفيعة في الغرب، وكان لتطبيق رؤاهم الجغرافية الفضل في تفوق القوة البحرية العسكرية الغربية على روسيا، ولصعود حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة كقوة مهيمنة حتى اليوم.

الرؤية الجغرافية الروسية

قسم العالِم الجيوبوليتيكي الروسي بيوتر سافيتسكي روسيا إلى الغابة الأوروبية والسهب الاَسيوي، الملاحظ تواضع الفكر الجيوبوليتيكي الروسي الكلاسيكي، وفي اعتقادي هو أحد أسباب هيمنة الغرب على البحار والممرات الدولية.

حمل المفكر الجيوبوليتيكي الروسي الحديث ألكسندر دوغين الحقبة الروسية السوفيتية المسؤولية لإهمالها الجغرافيا، وتركيزها على العلاقات الدولية والقانون الدولي، والتوسع العسكري في القرن الأفريقي والشرق الأوسط، مما ورط روسيا بغزو فاشل إلى أفغانستان (1979 – 1989)، وجعلها تفشل في السياسة الخارجية>

أوراسيا قلب العالم

أوراسيا هي المنطقة التي تمتد من غربي أوربا على المحيط الأطلسي حتى ضفاف المحيط الهادئ شرقي اسيا، أي هي المنطقة الممتدة من اَسيا إلى أوروبا والشرق الأوسط، هذه المساحة لديها قدرات زراعية وصناعية هائلة، وممرات اتصال وتجارة برية وبحرية وجوية، من يسيطر عليها يضمن الهمينة عالمياً، من خلال هذه المساحة يمكن فهم طبيعة الصراع الرهيب بين حلف شمال الأطلسي بقيادة أمريكا، والأوراسية الجديدة بقيادة روسيا، وطريق الحرير بقيادة الصين.

الإستراتيجية الأوراسية الأمريكية

وضع مستشار الأمن القومي زبجنييف بريجنسكي خلال حقبة إدارة الرئيس الأمريكي جيمي كارتر (1974 – 1979) في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” استراتيجيات لمواجهة الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، وأشار على كارتر بالاعتراف بالصين الشيوعية التي كانت علاقتها مع نظيرتها الشيوعية السوفيتية تشهد خلافات وتوترات، ودعا لتسليح ودعم المجاهدين الأفغان، والجهاد الإسلامي العالمي في أفغانستان، وحركة تضامن التي أطاحت بالنظام الشيوعي في بولندا، وتنصيب صواريخ في أوروبا الغربية لمواجهة موسكو.

قال الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما عنه : (كنت أحد اكثر الرؤساء استفادة من أفكاره ومشورته وأنها ساهمت لعقود في رسم السياسة الخارجية الامريكية في حقبة متفاوتة).

الف بريجينسكي كتاب جديد بعنوان “العقيدة” في عام 1997 واضعاً إستراتيجية جديدة للتعامل مع روسيا (ما بعد الحقبة السوفيتية) سارت الأدارات الأمريكية عليها من جورج بوش الأب (1989 – 1993)، وحتى اليوم مع أختلاف تنفيذ التكيتيات تطبيق إستراتيجية الأوراسية الأمريكية، ولتتطور الإستراتيجية لتؤسس”الدرع الصاروخية”، وحذر بريجينكسي من قيام تحالف روسي صيني إيراني يهدد الزعامة العالمية للولايات المتحدة الامريكية، ولفت إلى أن ما يجمعهم هو تفكيك نظام احادية القطبية التي تقوده.

كانت مخاوفه نابعة من تمتعهم بامكانيات جغرافية تتيح لهم ذلك والمتمثلة في : ( المساحة الكبيرة – موارد الطاقة – عدد السكان الكبير) ، فروسيا تعتبر الأولى في منطقة أوراسيا والصين في شرقي اَسيا، وإيران في غربي أسيا، وإذا تحالفت تستطيع تهديد مصالح واشنطون.

ارتكزت رؤية بريجينسكي الأوراسية على إزاحة روسيا أستناداً على على رؤية ماكيندر، والتي تمحورت حول من أراد السيطرة على أوراسيا عليه بالسيطرة على المضائق والممرات البحرية خاصة في الشرق الأوسط، ولذلك أولوا اهمية للسيطرة لذلك، من هنا جاءت فكرة ازاحة روسيا كقوة عظمى من الساحة الدولية عبر خيارين:-

– تدميرها أو أخضاعها والتركيز على تعزيز القوة البحرية

– محاصرتها عبر بناء الدرع الصاروخية في اقليمي القوقاز وشرق أوروبا

الإستراتيجية الأوراسية الروسية

تمسك المفكر السياسي والجيوبوليتيكي الروسي ألكسندر دوغين بالتعامل مع الجغرافيا كأيديلوجيا، ووصفها بعلم السلطة – من أجل السلطة، ووصف صراعها بالمختلف عن صراع الحضارات أو الأثني أو الطبقي القائم على الرغبة في الاستئثار عكس الصراع الجغرافي القائم على الوجود.

في سبيل ذلك أسس دوغين حزب أوراسيا في روسيا، ويعتبر بأنه أول من أعاد الهوية الأوراسية لروسيا، وطرح نظريته الأوراسية الجديدة للتداول عام 1998، وأطر نظريته على الأسس الاوراسية المكونة لهوية روسيا، ويوصف بالعقل المدبر لبوتين، وشبه براسبوتين الذي كان يعمل ببلاط العائلة القيصرية الروسية.

قامت الأوراسية الروسية أو الأوراسية الدوغينية على الأسس التالية:

– السعي للتوحد مع شعوب وبلدان أوراسية في ( سيبيريا – اَسيا الوسطى – القوقاز – أوروبا الشرقية) وشعوب أخرى، وتوطيد جوهر تلك الدول داخل الاتحاد الروسي

– إعادة إنشاء الاتحاد الأوراسي على أنقاض الجمهوريات السوفيتية ،ويدعي دوغين أن مشروعهم هذا لا يهدف إلى سيطرة روسيا على تلك الدول والتأثير عليها، ويصف أوروبا الغربية بأوراسيا الغربية

وقسم السياسة الخارجية الروسية الأوراسية إلى ثلاث محاور :

المحور الأول (موسكو – برلين)

أعتبر دوغين هذا المحور بأنه الأكثر تجانساً في أوروبا، وراهن على تركه أثراً في جنوب أوروبا أيطاليا وأسبانيا، ويرى بريطانيا بأنها ليست إلا مجرد قاعدة أمريكية عائمة على البحر، وطالب بإبعادها عن أوروبا، وتشجيع الحركات الانفصالية فيها وتقسيمها إلى دويلات صغيرة اسكتلندية وويلزية وايرلندية.

ونظرته إلى فرنسا لا تختلف عن بريطانيا التي يصفها بأطلسية التوجه، واستدرك بأنه إذا عادت للتوجه النابليوني و الديغولي سيقود ذلك إلى توحيد أوروبا في كتلة قارية واحدة في تجسيد وحدة فرنسا الديغولية مع ألمانيا، وتنتقل لتؤسس كونفيدرالية أوروبية تبعد الهيمنة الأمريكية على القرار الأوروبي.

اتهم دوغين واشنطون بالسعي لمنع التكامل الروسي الألماني عبر غرس الكراهية بينهما، وتوقع لو تحقق هذا التحالف فسيحول ألمانيا ليس من عملاق اقتصادي أوروبي فقط لكنه قزم سياسي دولي إلى عملاق أقتصادي وسياسي دوليين تنال بمقتضاه العضوية الدائمة في مجلس الأمن وحق الفيتو كذلك مستنداً على مقولة موحد ألمانيا بسمارك ( لا عدو لألمانيا في الشرق)، وحث القادة الروس على تبني اقرار شعار ( ليس لروسيا عدواً في الأقاليم الغربية لأوروبا ووسطها إلا الأصدقاء).

المحور الثاني (موسكو – طوكيو)

تمنى دوغين أن لو كان التحالف مع الهند ممكناً، وذلك لأنها أظهرت تعاطفاً مع روسيا السوفيتية خلال الحرب الباردة، ولكن ضعفها الاقتصادي والتقني جعله زاهداً بالتحالف معها، ولذلك لا مناص إلا بالتحالف مع اليابان حليفة أمريكا، لأنها أثبتت بأنها القاعدة الأهم لها في شرقي اَسيا، وانتقد عدم إسراع روسيا السوفيتية في احتوائها بعد أنتصار الثورة الصينية الشيوعية بقيادة ماو تسي تونغ ، واضاعة الفرصة التي كانت مواتية لذلك بعد الحرب العالمية الثانية، لنتهتز أمريكا الفرصة وتحتويها خوفاً من المد الشيوعي الذي أجتاح شرق وجنوب اَسيا، وتنضم طوكيو إلى المحور الأوروبي الغربي والحلف الاطلسي.

واستند لأطروحات علماء الجغرافيا السياسية الأمريكيين الذين حذروا فيها من قيام تحالف بين الأقاليم الثلاثة (روسيا – أوروبا – اليابان) لأنه سيضعف الهيمنة الأمريكية على أوراسيا، ويعتقد أن جميع العوامل ممهدة لهذا الحلف بسبب قصف الجيش الأمريكي لجزيرتي هيروشيما ونجازاكي بالقنبلة الذرية، فاليابانيون لن ينسوا الإبادة الذرية والاحتلال السياسي الذي تعرضوا له من الجيش الأمريكي، ومن هذه النقطة يمكن أن تحقيق تكامل سياسي يسمح لهم بالاستقلال السياسي والعسكري يمهد لأقامة جيش ياباني وطني، والتحرر من الحماية الأمريكية، وسيوفر هذا التحالف بتوفير التكنولوجيا اليابانية عالية الجودة والأمكانات المالية الضخمة التي تتمتع بها في تطوير صحراء سيبريا الروسية، وحل مشاكلها حتى لو تم التضحية بجزر كوريل التي تطالب بها طوكيو موسكو روسيا لإعادة السيادة اليابانية عليها.

المحور الثالث (موسكو – طهران)

عرض دوغين الأتجاهات السياسية المتعددة في الشرق الأوسط والمتمثلة في ( الأتجاه الأصولي الإيراني – التيار العلماني التركي – التيار العروبي العراقي السوري آنذاك – التيار الأصولي الوهابي السعودي) ليفضل تحالف روسيا مع إيران لأنه سيسمح لروسيا بالوصول إلى المياه الدافئة خاصة مع حرص التحالف الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة على منعها من التواجد في الخليج والمحيط الهندي والبحر الأسود، ولأنهما يشتركان بالإطلالة المشتركة على بحر قزوين الغني بالموارد النفطسة، وكذلك ستمسح بالتواجد لموسكو في مياه الخليج الذي ظل تناوب الغرب الأطلسي بالسيطرة عليه هنا يجب الإشارة لمقترح الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد لحفر قناة بحرية من بحر قزوين إلى مياه الخليج ، وكذلك الوصول إلى المحيط الهندي عبر بحر العرب، والأهم إقامة قواعد عسكرية بحرية روسية وتطبيق إستراتيجية خنق الأنكوندا (ثعبان ضخم في نهر الأمازون في قارة أمريكا الجنوبية)، وسيخترقها في أضعف نقاطه.

يصف دوغين ذلك المحور بأساس المشروع الجيوبوليتيكي الأوراسي، ويعتبر أن مجرد التفكير في إقامة أوراسيا غير روسية معناها إبادة لروسيا شعب ودولة، ويؤكد أن التاريخ يؤكد استحالة ذلك، وحال حدوث ذلك سيفتح نزاع واسع.

ويرجع سيطرة بريطانيا كإمبراطورية التي تغيب عنها الشمس خلال حقبة الاستعمار لهيمنتها على المضائق والممرات المائية والبحار (الدافئة) في الشرق الأوسط والمجاورة لروسيا بصفة خاصة لتبني قوة بحرية سيطرت بها العالم وخلفتهها الولايات المتحدة الأمريكية فيما بعد، وعلى الرغم أن روسيا دولة مكتملة في الشرق والغرب تظل ملاصقتها للبحار (الباردة) عقبة بناء قوة بحرية منافسة للغرب.

يضيف دوغين أن الولايات المتحدة الأمريكية خلال الـ 100 عام الماضية تصرفت في الأساس كقوة بحرية، وأكبر عدو للقوة البحرية.

تبني بوتين

تأثر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وفريقه بأفكار الكسندر دوغين واطروحاته الأوراسية ومنذ مطلع القرن الـ 21 ظل يسعى ولا يزال لإقامة إتحاداً أوراسي يمتد من مدينة فلاديفوستوك الواقعة في الشطر الأسيوي لروسيا شرقاً على المحيط الهادئ إلى عاصمة البرتغال لشبونة على المحيط الأطلسي ليتخذ من الاتحاد الأوروبي نموذجاً.

وبالفعل عقد الاجتماع الأول لهذا الاتحاد الذي كان في عاصمة روسيا القيصرية سان بطرسبورغ عام 2014 وضم قادة دول ( روسيا – روسيا البيضاء – كازاخستان وأرمينيا – قيرغيزستان)، وفي تصور دوغين يبنى هذا الاتحاد على أساس الشراكة الاقتصادية البراغماتية، واقترح إنشاء شركة أوراسية مشتركة لإدارة الموارد المعدنية لتلك البلدان، هذه الدول الجغرافية تضم 6 دول من الناحية العسكرية والاقتصادية، وتحتوي على 75% من مصادر الطاقة في العالم.

الانتقال للتطبيق

في عام 1998 وضعت الإدارة الأمريكية برئاسة بيل كلينتون (1993 – 2001) سياستها الأوراسية بدون ضجيج، وبعد عامين صعدت إدارة امريكية محافظة بقيادة جورج بوش (2001- 2009)، وشنت حروب على أفغانستان (2001) والعراق (2003)، وكان الغرض من الحربين هو السيطرة على المعادن والنفط.

اتفق الجيوبوليتيكية الأمريكية والروسية على أن من يسيطر على موارد الطاقة والنفط تزداد قوته الاقتصادية والسياسية، ويسيطر على حاجة الصين واليابان والهند وغيرها من الدول الصناعية.

بعد سقوط العاصمة العراقية بغداد في 2003 حددت سياسة بوش الأوراسية على مرتكزات :

– احتواء روسيا والصين وإيران

– الهيمنة على البحار المضائق للتحكم بطرق التجارة العالمية

– التأسيس للشرق الأوسط الكبير

لتنتقل الإستراتيجية الأمريكية إلى مرحلة جديدة والتي سنتعرف عليها في الحلقة القادمة، وستكون بعنوان ” الدب الروسي ينهض من سباته الشتوي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *