الأزمة السودانية والتطورات الإقليمية والعالمية (4)
بقلم: حسين سعد
في المحور الثالث عشر من سلسلة حلقاتنا التي نحاول من خلالها متابعة الأزمة السودانية والتطورات الاقليمية والعالمية، ومن بين هذه التطورات نشير الى رحلة الرئيس السنغالي ماكي سال رئيس الإتحاد الأفريقي، إلى روسيا وأوكرانيا، وتبدو هذه الزيارة مثقلة بهموم سكان القارة السمراء المهددين بنقص الغذاء بسبب توقف صادرات الحبوب الاوكرانية والروسية، التطور الثاني الذي نسلط عليه الضوء هو زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس بعد أقل من خمسة أشهر على توليه منصبه إلى أفريقيا.
مجاعة بأفريقيا..
حذرت الانباء خلال الفترة الماضية من مجاعة بالدول الافريقية التي تتجاوز وارداتها من الحبوب الاوكرانية الروسية نحو (50%) وأطلقت تشاد نداء إستغاثة وإعلان (حالة طوارئ غذائية) في البلد الواقع في وسط القارة الأفريقية ويواجه فيه زهاء ستة ملايين شخص خطر الجوع. وتشاد هي واحدة من دول أفريقية عديدة تربطها علاقات قوية بروسيا، تواجه اليوم معاناة مزدوجة بسبب أزمة غذائية حادة وإرتفاع أسعار الطاقة. إذ عززت روسيا في السنوات الأخيرة حضورها الاستراتيجي في مناطق مختلفة من القارة الأفريقية، عبر اتفاقيات عسكرية وأمنية، تحولت بمقتضاها موسكو إلى منافس قوي لقوى تقليدية غربية وأيضا قوى صاعدة كالصين وتركيا والهند، وتحولت القارة السمراء من شريك إستراتيجي لروسيا إلى مستغيث من أوضاع كارثية تهدده، وخلال العقود الماضية كانت أولويات سياسات الدول الغربية في القارة الأفريقية، تركز على المصالح الاقتصادية والاستراتيجية واستغلال ثروات القارة، وتجاهلت بالمقابل هموم الأفارقة وآمالهم في التنمية والاستقرار،وبحسب مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة فقد أصبحت أفريقيا مؤخراً ذات أهمية متزايدة بالنسبة لألمانيا. وقد أسهمت بعض العوامل والتحولات الكبرى في صعود القارة إلى قمة أولويات أجندة السياسة الألمانية، ولعل أبرزها اندلاع أزمة اللاجئين وهجرة الأفارقة إلى أوروبا في عام 2015، بالإضافة إلى تنامي النشاط الإرهابي وشبكات الجريمة المنظمة في أفريقيا، فضلاً عن رغبة برلين في القيام بدور أكبر في القارة الأفريقية بما يعزز من مكانتها الدولية. وقد تجلى تصاعد الاهتمام الألماني بأفريقيا في عدد من المستويات، الأمر الذي من شأنه أن يعزز النفوذ الألماني المستقبلي في القارة. فعلى سبيل المثال، تم إطلاق ميثاق مجموعة العشرين مع أفريقيا أثناء رئاسة ألمانيا للمجموعة لتعزيز الاستثمار الخاص في أفريقيا، خاصة في البنية التحتية. كما كانت أنجيلا ميركل أكثر انفتاحاً على قبول المهاجرين غير الشرعيين مقارنة بشركائها الأوروبيين. لذلك كانت جولة خارجية للمستشار الألماني أولاف شولتس بعد أقل من خمسة أشهر على توليه منصبه إلى أفريقيا، ليس إلى آسيا أو أمريكا اللاتينية، وكانت جولته (خلال الفترة من 22-25 مايو 2022) مصممة بعناية، حيث شملت السنغال والنيجر وجنوب أفريقيا. وعلى الرغم من أن الحرب الأوكرانية شكلت الجانب المخفي من زيارة شولتس الأفريقية، فإن من بين الأهداف الأخرى هو استكمال ما بدأته انجيلا ميركل من أجل اللحاق بركب التدافع الدولي على أفريقيا.
محاربة الجماعات الجهادية..
في النيجر، كان الأمن هو الموضوع الرئيسي في محادثات المستشار الألماني مع الرئيس محمد بازوم. حيث قامت ألمانيا، مثل القوى الأوروبية الأخرى، بنقل دعمها العسكري لمحاربة الجماعات الجهادية العنيفة إلى النيجر بعد أن أطاح المجلس العسكري بالحكومة المنتخبة في مالي المجاورة، وتبنى سياسات عدائية انتهت بطرد فرنسا من البلاد. رسمياً، يتم نشر 200 جندي ألماني في دولة النيجرالغنية بالموارد الطبيعية وذات الأهمية الجيوستراتيجية البالغة. ويقوم الجيش الألماني (البوندسفير) بتدريب القوات الخاصة النيجرية كجزء من عملية غزال، الجارية منذ عام 2018 في إطار مهمة بعثة الاتحاد الأوروبي للتدريب “EUTM”. وعارضت حكومة الرئيس محمد بازوم المنتخبة ديمقراطياً في النيجر عارضت التعاون مع روسيا. وعليه، سوف تكتسب النيجر مكانة محورية في الفكر الاستراتيجي الغربي، في إطار سياسات بناء التحالفات الجديدة في عالم ما بعد الحرب الأوكرانية.،ويشير مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة الي مجموعة من الدوافع التي تفسر هذا التحول في الموقف الألماني تجاه القارة الأفريقية بعد اندلاع الحرب الأوكرانية:
(أولا) الدفاع عن المصالح الألمانية في المنطقة عسكرياً: حيث تمثل زيادة المشاركة الألمانية في قوات مينوسما في مالي من 1100 إلى 1400 جندي، استعداداً للتصعيد القتالي. ووفقاً لنص التفويض، يمكن حشد المزيد من القوات “في مراحل إعادة الانتشار، وكذلك في سياق تناوب القوات، وفي حالات الطوارئ”. وبذلك، تم تفويض “بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي” باتخاذ جميع التدابير اللازمة، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية، لإنجاز المهمة.
(ثانيا) ملء الفراغ والاستجابة للتحديات الجيوستراتيجية بعد انسحاب القوات الفرنسية: وعليه سوف تكون ألمانيا أكبر مزود للقوات الأممية في مالي من شمال الكرة الأرضية. يعني ذلك بكل وضوح أنه بوجود “300 جندي جديد”، تعمل ألمانيا على سد الفجوة التي خلفها الفرنسيون.
(ثالثا) احتواء النفوذ الروسي: لا تعتبر كل من مالي والنيجر مهمين من الناحية الجغرافية فحسب، ولكنهما يتمتعان أيضاً بوفرة المواد الخام. فالنيجر هي أكبر منتج لليورانيوم في أفريقيا، وخامس أكبر منتج في العالم. ومنذ عام 2011، كانت البلاد أيضاً واحدة من الدول المصدرة للنفط. وذلك غير المواد الخام الأخرى التي يتم استخراجها ومعالجتها مثل الفوسفات والجبس والحجر الجيري.
أما مالي فهي ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا بعد جنوب أفريقيا وغانا، ولديها رواسب كبيرة من البوكسيت والفوسفات وخام الحديد، من بين معادن أخرى.
(رابعا) تعزيز الاستثمارات الألمانية في أفريقيا: على الرغم من تباين المواقف بشأن الأزمة الأوكرانية فإن زيارة شولتس لجنوب أفريقيا تؤكد النهج البرجماتي في سياسته الخارجية، وتركيزه على قطاع الأعمال والاستثمارات الخارجية. كانت ألمانيا مستثمراً رئيسياً في جنوب أفريقيا منذ عدة عقود، حيث تعمل هناك حوالي 600 شركة. وقد انضم شولتس إلى الاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيس غرفة التجارة والصناعة الألمانية الجنوب أفريقية. كما ناقش مع رامافوزا أيضاً قضايا الطاقة، بما في ذلك 8.5 مليار دولار أمريكي تقدمها ألمانيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا والاتحاد الأوروبي لجنوب أفريقيا لتعزيز انتقال الطاقة العادل.
(خامسا) اللحاق بركب التكالب الدولي على أفريقيا: على الرغم من أن ألمانيا نفسها كانت ذات يوم قوة استعمارية في أفريقيا، فقد حظيت الدول الغربية الأخرى بالأولوية، لاسيما فرنسا. وعليه ترغب ألمانيا في إطار توجهاتها الاستراتيجية الجديدة في أن تصبح قوة أوروبية رائدة من خلال اكتساب النفوذ والمكانة على الصعيد الدولي.
(سادسا) الخوف من الاضطرابات الثورية: لقد حذر شولتس في داكار من مواجهة “تحديات عالمية هائلة”. فسيكون لجائحة كوفيد 19 والحرب في أوكرانيا وأزمة المناخ عواقب مدمرة على الدول الأفريقية وعلى واقع الحياة بشكل عام. وقد عرضت هذه التحديات الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية التي حققتها دول الجنوب العالمي للخطر. وقال شولتس حتى “لا تؤجج هذه الأزمات بؤر توتر جديدة”، على ألمانيا أن “تتصرف بحزم”.
تأمين احتياطيات الغاز ..
وما تريده ألمانيا من السنغال هو تأمين احتياطيات الغاز في البلاد في أسرع وقت ممكن. وقد أعلن المستشار الألماني ذلك بكل وضوح في داكار قائلاً: “أريد أن أكون واضحاً جداً بشأن هذا الأمر”. “بالطبع، نريد التعاون مع السنغال على وجه الخصوص ليس فقط في مسألة الجيل المستقبلي للطاقة من مصادر متجددة … ولكننا نريد أن نفعل ذلك أيضاً فيما يتعلق بقضية الغاز الطبيعي المسال، وإنتاج الغاز هنا في السنغال.” وقد دعا شولتس الرئيس السنغالي ماكي سال، الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي، لحضور قمة الدول الصناعية السبع لهذا العام، والتي ستستضيفها ألمانيا في بافاريا.
في إطار تغيرات النظام الدولي وبروز دور ألمانيا في ظل زعامة أنجيلا ميركل الكارزمية على مدى 16 عاماً، طورت برلين ما يمكن تسميته استراتيجية اللحاق بالركب في تعاملها مع أفريقيا لترسيخ مصالحها الجيوسياسية المتغيرة. وقد أبرزت زيارة شولتس بعضاً من ملامح تلك الاستراتيجية. ومن ذلك:
(أولا) وضع أفريقيا في محاور اهتمام السياسة الخارجية الألمانية بعد أن احتلت مكاناً هامشياً في السنوات الماضية. (ثانيا) زيادة المنافسة الجيوستراتيجية بين القوى الكبرى في القارة، وبالتالي مواجهة التقدم المضطرد الذي أحرزته الصين في أفريقيا، وكذلك احتواء تهديدات التحركات التركية والروسية في القارة والتصدي لإجراءات الحرب التجارية بين واشنطن وبكين من خلال دفع الشركات الألمانية لغزو الأسواق الأفريقية والاستفادة من فرص الاستثمار فيها.
(ثالث) موازنة الدور الفرنسي في القارة، خاصة بعد خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وعلى الرغم من وجود تعاون وتنسيق بشأن قضية الهجرة غير الشرعية ومكافحة الإرهاب في منطقة الساحل.
(رابعا)زيادة الاستثمار وإنعاش العلاقات الاقتصادية مع الدول الأفريقية، وتعزيز النمو الاقتصادي في تلك الدول، والاستفادة من الحجم الهائل لسوقها، وزيادة مشاركة الشركات والمستثمرين الألمان في الأسواق الأفريقية.
(خامسا) الاهتمام الألماني بتنويع مصادر الطاقة والاستفادة من الموارد المعدنية والنفطية في أفريقيا كقضية رئيسية لألمانيا التي تعد واحدة من أكبر الدول الصناعية في العالم مع السعي لتعزيز الصادرات الألمانية في هذا القطاع من خلال توفير التكنولوجيا لشركات الطاقة الأفريقية.
(سادسا) تعزيز تجارة الأسلحة والصناعات العسكرية مع الدول الأفريقية مثل الشركات الجنوب أفريقية. (يتبع)