الثلاثاء, أبريل 1, 2025
مقالات

الأم في السودان.. قلب المجتمع وذاكرة الوطن في زمن الحرب والسلام

بقلم: محمد عمر شمينا

يأتي الحادي والعشرون من مارس كل عام محملًا بمشاعر متناقضة، بين الفرح بالاحتفاء بالأمهات، والحنين لمن رحلت منهن تاركة وراءها إرثًا من الحب والتضحية. في هذا اليوم، الذي يوافق عيد الأم في كثير من البلدان، تتجدد في السودان مكانة الأم كرمز للحياة والصبر، وتتجدد معه مظاهر الاحتفاء والتقدير، وإن كان السياق العام في البلاد لا يسمح بالكثير من الفرح. لكن لرمزية هذا التاريخ بعدٌ آخر يتجاوز السودان، حيث يحمل أهمية خاصة في جنوب إفريقيا أيضًا، فهو يوافق “يوم حقوق الإنسان”، تخليدًا لذكرى مجزرة شاربفيل عام 1960، حين فتحت الشرطة النار على متظاهرين سلميين مناهضين لنظام الفصل العنصري. وهكذا، يلتقي التاريخان في دلالتهما على النضال والصمود، سواء كان نضال الأمهات في سبيل أسرهن، أو نضال الشعوب في سبيل الحرية والكرامة.

في السودان، ليست الأم مجرد فرد في العائلة، بل هي نواة الأسرة، وحافظة التقاليد، وصانعة القيم. حملت المرأة السودانية عبر الأجيال مسؤوليات تمتد من البيت إلى فضاءات المجتمع والسياسة، وأدت دورًا محوريًا في تشكيل هوية البلاد. على مر العصور، كانت الأم هي الصدر الحاني في زمن السلم، وهي السند الأول في زمن الحرب، فحين تشتد الأزمات، تصبح المرأة السودانية درعًا يحمي عائلتها من قسوة الظروف، وسندًا لا يتزعزع في وجه المحن.

تحظى الأم السودانية بمكانة عظيمة، فهي الركيزة التي تقوم عليها الأسرة، والمعلم الأول الذي يزرع القيم في النفوس. نشأت الأمهات على مبادئ التكافل والتراحم، فكن نموذجًا للصبر والتضحية. في البيوت الطينية كما في المدن الحديثة، تظل الأم هي الحاضنة للذكريات، والمحفّزة على النجاح، والحامية من تقلبات الزمن. لم تكن الأم في السودان مجرد ربة منزل، بل لعبت دورًا في دعم الأسرة اقتصاديًا أيضًا. في الأسواق، تجدها تاجرة ماهرة، وفي الأرياف، تحرث الأرض جنبًا إلى جنب مع الرجل، وفي المدن، هي المعلمة، والطبيبة، والمربية. هذه القدرة على التكيف والاستمرار جعلت الأم السودانية رمزًا للصمود.

عندما نتحدث عن الثقافة السودانية، لا يمكن إغفال دور الأمهات في حفظ التراث الشعبي. فالأم السودانية ليست فقط من تروي الحكايات قبل النوم، بل هي من تحفظ الأشعار والأمثال التي تختصر حكمة الأجداد. في الأمسيات الهادئة، تجتمع الأسرة حولها لتستمع إلى القصص التي تحمل العبرة، والضحكة، والتاريخ غير المكتوب. في المناسبات، هي من تحفظ طقوس الأفراح والأحزان، فتغني في الأعراس، وتردد الأناشيد في المآتم، وتعد الطعام التقليدي الذي يحمل روح الوطن في نكهاته. في بعض المجتمعات، تدير التكايا التي تطعم الفقراء وتعزز من قيم التكافل الاجتماعي.

لكن الأم السودانية اليوم تواجه اختبارًا قاسيًا في ظل الحرب التي تعصف بالبلاد. ففي وقت كان يفترض فيه أن يكون عيد الأم مناسبة للاحتفاء، تجد نفسها غارقة في معاناة لا تنتهي، بين النزوح والحرمان، وفقدان الأبناء تحت القصف أو في المعتقلات، أو حتى اضطرارها لحمل السلاح دفاعًا عن نفسها وعائلتها. في المعسكرات، هناك آلاف الأمهات اللواتي فقدن منازلهن وأزواجهن، ويكافحن لإطعام أطفالهن وسط شح الغذاء وغياب المساعدات.

وسط هذا الخراب، تجد الأمهات السودانيات في التكايا ملاذًا لسد رمق أسرهن، يساهمن في إعداد الطعام لمن لا يملكون قوت يومهم. وبينما تتعرض الأسواق للدمار وتنقطع الإمدادات الغذائية، تحولت التكايا إلى نقاط تجمع لمساعدة الجياع والمنكوبين، حيث تتضافر جهود النساء في الطهو والتوزيع، رغم شح الموارد وانعدام الأمن. في بعض المناطق، أصبحت التكايا أشبه بمراكز إغاثية غير رسمية، حيث تقدم الطعام والمأوى للنساء والأطفال الفارين من القصف والمعارك. لم تعد مجرد مكان يقدم وجبة ساخنة، بل أصبحت رمزًا لصمود المجتمع في وجه الفوضى، حيث تستمد الأمهات من روح التكافل قوة لمواجهة المحنة، رافعات راية العطاء في وجه الخراب.

ولم تقتصر معاناة الأمهات في الحرب على النزوح والجوع فقط، بل امتدت إلى آلام الفقد، حيث تعيش أمهات كثيرات على أمل عودة أبنائهن الذين اختفوا في خضم المعارك أو وقعوا في الأسر. بعضهن ينتظرن أي خبر، ولو كان مؤلمًا، فقط لينتهي قلق الانتظار. وفي غياب أي مؤسسات فاعلة تعنى بحقوق الأسر، تتحمل الأمهات وحدهن عبء البحث عن مصير أبنائهن بين القوائم غير المكتملة للمفقودين.

أما في المدن التي لم تطلها المعارك المباشرة، فتعيش الأمهات السودانيات معاناة من نوع آخر، حيث يواجهن صعوبة تدبير لقمة العيش في ظل انهيار الاقتصاد وارتفاع الأسعار. في مثل هذه الظروف، تجد الأم نفسها مضطرة للعب أدوار متعددة، فهي التي تبحث عن مصدر دخل إضافي، وهي التي تواسي أبناءها رغم الألم، وهي التي تقف صلبة رغم شعورها بالعجز.

في ظل هذا الواقع المؤلم، تظل الأم السودانية نموذجًا فريدًا للصبر والتضحية، فهي التي تتحمل العبء الأكبر في الحفاظ على تماسك الأسرة رغم الانهيارات التي تحيط بها. إنها التي تطمئن أبناءها رغم خوفها، وتبحث عن الحلول رغم انسداد الأفق. وبينما تجلس في ظلال النزوح أو وسط البيوت التي فقدت بهجتها، لا تزال تجد القوة لتروي الحكايات، وتنقل لأطفالها ما تبقى من دفء الوطن. في عيدها، لا يكفي أن نحتفي بها بالكلمات، بل يجب أن نجعل من تكريمها مشروعًا وطنيًا يعيد لها الأمان والكرامة، ويمنحها مستقبلًا تستحقه، بعيدًا عن أوجاع الحرب وويلاتها.

وسط هذه المآسي، تظل الأم السودانية وكل الأمهات عنوانًا للصبر والتضحية، فهي التي تحمي أطفالها من أهوال الحرب، وتواجه النزوح بكل ما أوتيت من قوة، فتبحث عن مأوى، وتؤمن لقمة العيش، وتمنح الأمان وسط الخوف. إنها القلب الذي لا يتوقف عن النبض، حتى عندما تنهار الأوطان.

ورغم هذه التحديات، لا يزال عيد الأم يحمل معنى خاصًا للأسر السودانية، حيث تسعى العائلات للاحتفاء بالأمهات بوسائل بسيطة تعكس الحب والامتنان. لكن الاحتفال هذا العام يختلف، فقد أصبح مليئًا بالحزن والذكريات المؤلمة. ومع ذلك، فإن الأمل لا يزال قائمًا في قلوب الأمهات السودانيات، فكما صمدن في وجه الأزمات من قبل، يواصلن اليوم النضال من أجل غدٍ أفضل.

في يوم عيدها، تستحق الأم السودانية أن تُكرّم، لا فقط بالكلمات، بل بفعل حقيقي ينصفها ويعيد لها ما فقدته من أمان وكرامة، لأن تكريم الأم ليس مناسبة احتفالية فقط، بل التزام أخلاقي ومجتمعي تجاه من حملن عبء الحياة على أكتافهن في السلم والحرب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *