التقارب السوداني -الروسي (24)
الخرطوم..حسين سعد
في المحور السابع والثلاثون من سلسلة نواصل متابعة التقارب السوداني –الروسي،وبحسب دراسة كتبها محمد تورشين نشرها مركز الجزيرة للدراسات، استطاعت موسكو الحفاظ على الاتفاقيات التي أبرمتها مع نظام البشير بسبب بقاء نفس جنرالاته في السلطة، في فترة حكومة الشراكة بين قوى الحرية والتغيير والعسكريين في السلطة، بينما توطدت العلاقات بشكل متجذر بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021؛ حيث دعمت روسيا الانقلاب العسكري واستمرت في مساعيها الرامية لبناء نفوذها بمحاولة التأثير على الرأي العام السوداني لتأييد حلفائها من العسكريين، وتحت زعم دعم الاستقرار في البلاد عملت وتعمل على إضفاء الشرعية عليه، وذلك بتوجيه وسائل التواصل الاجتماعي وبعض الصحف السودانية
خلال العامين الأخيرين، كشفت موسكو عن بعض المشروعات مع الخرطوم في المجال الأمني. ففي قمة سوتشي، أكتوبر 2019، تعهد الرئيس، فلاديمير بوتين، بتنفيذ مجموعة واسعة من اتفاقيات الدفاع الروسية-السودانية التي تهدف إلى إصلاح الأجهزة العسكرية والأمنية السودانية وتعزيز قدراتها وقواتها، كما أعلنت روسيا أنها ستتعاون في المجال النووي السلمي بموجب اتفاق مع الحكومة السودانية، في مايو 2019، وهو إعلان يبدو أن طابعه دعائي محض. عمومًا، تمتلك موسكو العديد من المصالح الاقتصادية في السودان إذ تعد الخرطوم ثاني أكبر مستورد للأسلحة الروسية خلال العقدين الماضيين وبلغ حجم التجارة بين روسيا والسودان حوالي خمسمئة مليون دولار بميزان تجاري يميل بشدة لصالح موسكو؛ حيث تستورد روسيا من السودان بعض السلع مثل القطن والسمسم والفول السوداني، بينما يستورد السودان منها الأسلحة والقمح
كما تضاعفت مع مرور الوقت مساعي روسيا لاستنزاف الذهب السوداني حيث كثف الروس مشروعاتهم في هذا القطاع حيث تنشط شركات إم إنفست ومروي غولد وإستيماث (Esimath) الروسية للتعدين في عمليات تنقيب عن الذهب في السودان. وبدأ انخراط هذه الشركات منذ العام 2015 (بعد احتلال شبه جزيرة القرم والعقوبات الغربية الأولى ومن ثم سعى بوتين لتوفير احتياطيات ذهب تحميه من أية عقوبات لاحقة). وكان على رأس هذه الشركات شركة سيبرين التي وقَّعت اتفاقًا عام 2015 لإنتاج 46 طنًّا من الذهب، وفي العام 2017، دخلت شركات للعمل في ولايات نهر النيل والبحر الأحمر والشمالية مثل شركة مروي غولد المرتبطة برجل الأعمال الروسي، يفغيني بريغوجين، رئيس مجموعة فاغنر الروسية
تقوم مجموعة فاغنر بحراسة مناجم الذهب السودانية في مناطق جبل عامر وسننقو بالشراكة مع قوات الدعم السريع بقيادة نائب رئيس مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو (حميدتي). وفي إطار التحالف بين روسيا والجنرالات عمومًا والدعم السريع خصوصًا، تندرج زيارة محمد حمدان دقلو، نائب رئيس مجلس السيادة، مؤخرًا على رأس وفد رفيع إلى موسكو عشية بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا، وتصريحاته المؤيدة للغزو في إطار هذا التقارب وبما يخدم المصالح الروسية ويسهم في توسيع النفوذ الروسي في السودان
التقارب السوداني-الروسي: التحديات والأخطار
في الأول من مارس 2021، رست المدمرة الأميركية “يو إس إس وينستون تشرشل أدميرال” (USS Winston Churchill Admiral) وجهًا لوجه أمام الفرقاطة الروسية “أدميرال غريغوروفتش” (Admiral Grigorovich) في ميناء بورتسودان المطل على البحر الأحمر. كان ذلك المشهد بصورته تلك سابقة لم تحدث من قبل، وأعاد للأذهان الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفيتي كما أنه حمل الكثير من الدلالات التي تكشف حجم التنافس بين واشنطن وموسكو على سواحل البحر الأحمر بالسودان
رأت واشنطن في التغيير الذي حدث في السودان متغيرًا إستراتيجيًّا مهمًّا لتوسيع نفوذها وإضعاف الوجود الصيني والروسي في السودان واعتمدت مقاربة تقوم على دعم الانتقال المدني الديمقراطي ورفع العقوبات عن نظام الخرطوم. وفي إطار الدعم الأميركي للحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، أقرَّ الكونغرس، في يناير 2021، قانون الانتقال الديمقراطي والمساءلة والشفافية المالية، الذي يتضمن إستراتيجية الدعم الأميركي لعملية استكمال التحول الديمقراطي والتي تشدِّد الرقابة على الأجهزة العسكرية والأمنية وإعادة عقيدتها
برز الدعم الأميركي للحكومة السودانية بقيادة رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، التي وُصفت بأنها موالية للغرب بشدة ومسنودة منه اقتصاديًّا وسياسيًّا؛ حيث وقَّعت مع واشنطن على قرض بقيمة 2 مليار دولار ووقَّعت على مذكرة تفاهم من شأنها تمكين السودان من الحصول على تمويل يتجاوز المليار دولار من البنك الدولي كما أصبحت واشنطن أكبر مانح للمساعدات الإنسانية للسودان، عام 2020، بحوالي 437 مليون دولار
وفي سياق متصل، سعت الولايات المتحدة الأميركية إلى إيجاد مقاربة للتعاون مع المؤسسة العسكرية السودانية، فبعد إعلان إنشاء القاعدة الروسية بالبحر الأحمر أعلنت السفارة الأميركية بالخرطوم أنها ترغب في تعزيز تعاون عسكري وثيق، وأكد الملحق العسكري الأميركي، جاكوب داي، أنه يتواصل مع الجيش السوداني لتعزيز العلاقات الثنائية؛ حيث التقى مع قائد القوات البحرية السودانية، اللواء بحري حاج أحمد يوسف، في القاعدة البحرية السودانية بالبحر الأحمر وبحث معه أطر التعاون العسكري الثنائي
في ظل الصراع المستمر بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، حذَّرت مساعدة وزير الخارجية الأميركية للشؤون الإفريقية، مولي فيى، من أن انتصار روسيا في السودان يعني عواقب إنسانية وخيمة في منطقة القرن الإفريقي، وقالت ذلك أمام لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي، في فبراير 2022، لذلك تسعى واشنطن لإعادة صياغة سياستها إزاء الخرطوم بحيث تكون مبنية على أساس مواجهة موسكو
عقب انقلاب 25 أكتوبر 2021، والإطاحة بالشق المدني من الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء، عبد الله حمدوك، اتخذت روسيا موقفًا مؤيدًا بشكل مبطن للانقلاب؛ حيث صرَّح نائب ممثل روسيا لدى الأمم المتحدة، ديمتري بوليانسكي، بأنه من الصعب القول ما إذا كان هذا انقلابًا أم لا باعتبار أن هناك أحداثًا مماثلة وقعت في مناطق أخرى في العالم دون أن يُطلق عليها اسم انقلاب. وعلى صعيد متصل، أرجع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، حالة عدم الاستقرار في السودان إلى الأعمال المزعْزِعة للاستقرار من قبل القوى الغربية والتي أدت إلى تآكل وحدة أراضي البلاد وفرض الديمقراطية، في اتهام مباشر للدول الغربية.
وتنظر روسيا إلى الاحتكاكات بين السودان والولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي التي وقعت عقب الانقلاب بأنها فرصة مهمة لتعزيز وجودها في السودان واستكمال مشروع قاعدة فلامنجو بالبحر الأحمر وعقد شراكات واسعة في قطاع النقيب عن الذهب والموارد الخام
السيناريوهات المتوقعة
إن خطر مسألة التقارب السوداني-الروسي كونه يجعل السودان مسرحًا لتصفية الحسابات والتنازع مع الدول الأخرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وألمانيا وإلى حدٍّ ما الصين؛ حيث كل هذه الدول لديها أطماع في السودان وبالأخص الساحل الممتد على البحر الأحمر. كما أن هناك ضغوطًا إقليمية من قبل المملكة العربية السعودية والدول الثماني المطلة على البحر الأحمر التي وقَّعت اتفاقية الرياض الأمنية في عام 2020، والتي تنص على إبعاد النفوذ الأجنبي من البحر الأحمر؛ لذلك يواجه السودان ضغوطًا من الدول المطلة على البحر الأحمر لعدم السماح بوجود قواعد أجنبية
عمومًا، على ضوء التقارب السوداني-الروسي نحاول فيما يلي رسم بعض السيناريوهات حول استشراف مستقبل الحضور الروسي في السودان على النحو التالي:
1– التقارب السوداني-الروسي ربما يشكِّل ضغطًا على الإدارة الأميركية يجعلها تخفف من لهجتها وعقوباتها إزاء المكون العسكري المتحالف مع قوى الحرية والتغيير ميثاق التوافق الوطني، في محاولة لاحتوائه إذا باءت محاولاتها المرتبطة بإعادة مسار التحول الديمقراطي وتشكيل حكومة مدنية توافقية بين القوى السياسية بالفشل، على أمل أن تضمن ولاءه لها ولقطع الطريق أمام أي طموح روسي للتمدد في القرن الإفريقي عبر بوابة السودان
2– العودة إلى مربع العقوبات الأميركية والتأثير والضغط على المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وإعادة النظام السوداني إلى مرحلة العزلة والحصار. وفي إطار تحقيق ذلك، جمدت الولايات المتحدة الأميركية مساعدات بقيمة سبعمئة مليون دولار وأوقف البنك الدولي منحه تنموية بقيمة ملياري دولار للبلاد
3– بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021 وحرب أوكرانيا، ترى روسيا أنه حان الوقت لتوطيد حضورها بشكل فعال بالسودان لتحقيق مصالحها الإستراتيجية والاستفادة من حالة التراجع التي تشهدها العلاقات الأميركية-السودانية حيث تشدد واشنطن الحصار على نظام الخرطوم حتى يعود إلى مسار الانتقال المدني الديمقراطي. في إطار ذلك، استخدمت روسيا حق النقض ضد مشروع قرار يدين إجراءات البرهان ويصفها بالانقلاب. بالمقابل، رفض السودان التصويت على مشروع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المتعلق بإدانة العدوان الروسي على أوكرانيا.
من هذا المنطلق، أعتقد أن زيارة نائب رئيس مجلس السيادة وقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان (حميدتي)، في فبراير 2022، سيكون لها ما بعدها؛ حيث صرَّح عقب وصوله إلى مطار الخرطوم بأنه بحث مع المسؤولين الروس التعاون في مجال الأمن القومي وقضايا سياسية وتبادل الخبرات والتعاون المشترك ومكافحة الإرهاب والتدريب. وفيما يتعلق بمصير القاعدة البحرية الروسية بالبحر، قال: هناك دول إفريقية بها قواعد ولا أعرف السبب وراء الاهتمام المتزايد بهذه القاعدة، وأكد أن السودان عليه البحث عن مصالحه الإستراتيجية
خاتمة
يرتبط الحضور الروسي في السودان بمصالح موسكو الإستراتيجية باعتبار الخرطوم حلقة وصل بين دول شرق إفريقيا ووسطها وغربها، ومحورًا مهمًّا لحماية الوجود الروسي في إفريقيا الوسطى ومحاولة التغلغل في جنوب السودان وتشاد… إلخ. كما أن استكمال مشروع القاعدة الروسية بالبحر الأحمر سيكون بمنزلة مخزن ضخم لتدفق الأسلحة والمعدات العسكرية إلى مراكز النفوذ الروسي في قارة إفريقيا في مالي وموزمبيق والكونغو، ويمكن أن تستخدم كمخلب قطٍّ في أي صراع روسي-غربي محتمل. فضلًا عن أن استمرار التعاون بين الدعم السريع ومجموعة فاغنر يضمن استمرارية تدفق كميات كبيرة من الذهب (واليورانيوم) بطرق لا تحقق أي مكاسب للاقتصاد السوداني وتصب فقط في دعم مشروع روسيا القائم على توفير احتياطيات ضخمة من الذهب والمعادن. وفي ظل ميل النظامين للشمولية والحرب ومعاداتهما لتطلعات الشعوب وسيادة الفساد في كل منهما، أعتقد بأن نظامي الخرطوم وموسكو سيتعاونان أكثر وأكثر في الفترة القادمة.(يتبع)