إرث قوانين السلطنات ..وكليات القانون السودانية
بقلم : محمد بدوي
اللافت أن العديد من الصراعات في السودان مرتبطة بملكية الأرض، في دولة غالب الأراضي فيها باستثناء المساكن بالمدن الكبيرة ملكيتها في السجلات الرسمية باسم حكومة السودان لأسباب ارتبطت بمسار تكوين الدولة التي شكلت انضمام وضم السلطنات والممالك إلى رقعتها الجغرافية التي تمثل الحدود الحالية للسودان، ثم صدور قوانين نظمت ملكية الأرض بإقرار التسجيل السابق لعام ١٩٧٠ ولم تراعي الفترات القصيرة لانضمام تلك الكيانات وعلاقات تنظيم الملكية في القوانين التي كانت سارية فيها قبل أن تصبح جزء من الدولة وتجذر تلك القواعد المنظمة في ذهن شعوبها واستقرارها في ضمائرها ، بالإضافة لاستمرار غياب اي جهد للتوعية بما طرأ من تغيرات، بالمقابل استمرار مظهر الحيازة الفعلية والمرتبطة بسيطرة غالب المجموعات السكانية على اراضيها ، ليثور السؤال حول الصراعات هل دافعها الملكية بمفهومها المجرد؟ مع الأخذ في الاعتبار شساعة الأرض غير المستغلة لأسباب مرتبطة بمتطلبات ذلك ! أم أن الأسباب مربوطة باحتفاظ تلك المجموعات بشكل من أشكال السلطة الذاتية، فاذا كانت عناصر الدولة تتمثل في ( الشعب، الأرض والسلطة) فهنا نجد توافر ذات العناصر من الأرض إلى الإدارة الأهلية والقوانين ذات الارتباط التاريخي بالسلطنات، كنتيجة لتعامل ونظر الحكومات الوطنية المتعاقبة إلى ذلك التطور في سياق ضم رقع جغرافية دون عناء الوقوف على المسارات التاريخية، الثقافية والاجتماعية التي قادت لأن تصبح أجزاء ملتصقة بإسم الدولة .
في تقديري أن الإجابة شائكة ومعقدة لكن مظهرها هو بدء الصراعات حول الأرض منذ النصف الأول من الستينيات حيث بداية الحالة بين المعاليا والزريقات في ١٩٦٤ عقب ٨ اعوام من الإستقلال واخر احداثه في ٢٠١٧-٢٠١٨ وبالنظر إلى المنطقة المتنازع حولها وقيمتها المرتبطة بالزراعة أو الرعي قد تجعل ترجيح ارتباط الحالة بمسألتي تصورات الهوية والسلطة الذاتية كمظهر كشف عدم اكتمال التأسيس لعلاقة الشمول عقب الاستقلال بما يشمل الخدمات والتنمية المرتبطة بالأرض واستخداماتها فكلاهما يدفع للنظر حول علاقات الأرض سواء بين الدولة والأفراد، يمكننا القول بأن اقصاء استصحاب القوانين الحاكمة للأرض في السلطنات والممالك التي ضمت للسودان شكل تغييب لعنصر من عناصر القواعد المرتبطة بالأرض، لأن القانون يصدر ويتطور ليحكم وينظم العلاقات بطريقة تحظى بالإحترام والطاعة، بالتالي لابد من ملامسته للعناصر الثقافية للمجتمعات المستهدفة ، لأنه لو نظرنا إلى سلطنة الفور سنجد أن توزيع الأرض ارتبط بالإداري لذا فالأسماء جاءت مسبوقة بلفظة ( دار او داره ) وهي حالة ترتبت عليها التزامات ناتجة من السيطرة الفعلية، حفظ الأمن في كافة صوره سواء المرتبطة بالعلاقات داخل المجموعة أو علاقات الإنتاج، و هنالك نظام العشور، قواعد الزراعة للأنفار، ضمان التلف ،اخراج الأثر، قواعد تنظيم المسارات مع المجموعات التي تمر بها سواء في الإستقرار المؤقت او السقيا، وقواعد الإستضافة للمجموعات المستوطنة او الفارة من الحروب داخل حدود الدارة بشروط عدم ادعاء الملكية أو استخدام الأرض بما يضر بطبيعتها او الضار بالبيئة مثل قطع الاشجار لصنع الفحم وهنا برزت ايضا العلاقة الأقرب لإرتباط الأرض بممارسة مظاهر الملكية والسلطة داخلها وهو ما سار عليه الإستعمار الإنجليزي بأن جعل أسماء المجالس ملتصقا بالعلاقات التي اقرتها السلطنات، لكن غاب عن دولة ١٩٥٦ تجميع تلك القوانين ودراستها قبل اصدار قوانين لاحقة لتنظيم الأرض أو النص على استثناءات، بل لا أثر لها في كليات القانون كجزء مكمل لتطور القانون، في الراهن لا تزال المجتمعات المحلية تحتكم لبعض بنودها، وهذا امتداد لقصر النظر للتكوين السكاني الذي يتسم بالتنوع والتي بمقدورها اختبار المسألة الثانية والمرتبطة بالفدرالية كشكل هل هو نظام ملائم للسلطة في الدولة الشاسعة والمتسمة بالتنوع في كافة المجالات ام لا ؟
المتابع لمسار الأحداث بإقليم دارفور يقف على أن مجموعة المسيرية جبل التي تقطن بجبل مون بغرب دارفور تعرف نفسها ضمن المجموعات الإفريقية التي لجأ أفرادها إلى دولة تشاد بعد أن شملتها الإعتداءات في ٢٠٠٣، عقب العودة الجزئية للبعض منهم في ٢٠١٩ الي مناطقهم السابقة، دارت صراعات على امتداد العامين ٢٠٢١ – ٢٠٢٢ مع المجموعات الرعوية العربية بسبب الإعتداء على المزارع كمحرك لبداية الأحداث ثم تطور ليكشف عن أسباب آخرى لا حوجه للخوض فيها في هذا الحيز بقدر التركيز على ملكيتها للأرض وارتباطها بالزراعة لكن المهم أنها عززت من انتماءها إلى القبائل الإفريقية حينما تم الاعتراض على وصف اطلق عقب جلسات وقف العدائيات تحت مظلة لجنة الدعم السريع للمصالحات حينما قال ” بأن المسيرية عرب”، في حالة معاكسة في ديسمبر ٢٠٢٢ أنضم المسيرية إلى طرف المجموعة العربية في مواجهة سكان منطقة مولي بشرق نيالا بجنوب دارفور التي شملت الداجو، الفور، الزغاوة والبرقد، السبب هو انها تمارس النشاط الرعوي بما يعزز من علاقتها بالمنطقة أو الأرض بأنها جاءت عقب نزوح سكانها إلى المعسكرات، فمجمل الأرض تخضع لأراضي سلطنة الداجو السابقة لسلطنتي التنجر والفور بدارفور ولا يزال سلطان الداجو يمثل رأس الإدارة الأهلية لكافة المجموعات الأخرى التي تقيم بالمنطقة من الفور والبرقد والزغاوة وغيرهم الذين يخضعون لسلطات العمد، بينما يخضع العمد للسلطان، إذن مظهر العلاقة هنا أن المجموعات الزراعية قطنت تاريخيا تحت سند المنح للأراضي أو نظام الاستضافة من قبل الداجو، طبيعة المنطقة الغنية جعلت من اسباب الصراع هنا مرتبطة بالأرض في حد ذاتها باعتبارها من المناطق الغنية والاستراتيجية في الربط من مناطق جنوب السودان الي اقصي الغرب /الجغرافي، وارتبطت بمظهر السلطة اذا تتبعنا ان سلطان بيده القرار النهائي عقب الأحداث ( دون الخوض في التفاصيل ) هو من وقع نيابة عن المجموعات المتضررة على وثيقة وقف العدائيات، وتبرز هنا حالة غياب السلطة المدنية الممثلة في المدير التنفيذي، فحكومة ولاية جنوب دارفور تطلق على جغرافية الأحداث بمحلية بليل، والاطراف المتصارعة تخضع صلحها لقاموس الإدارة الاهلية باعتبارها ممثلة للسكان والأرض.
إذن الصراع لا يقتصر على الملكية وعلاقات الإنتاج واستخدامات الأراضي، بل انه كشف حالة معقدة أشرت لأسبابها اعلاه كنتيجة تغييب استصحاب الشروط الثقافية للمجموعات التي تكونت منها الدولة في السياقات القانونية، فصدرت قوانين تطبقها المحاكم لكن لا تأثير لها في وجدان بعض المجموعات، بما يقود إلى السؤال الجوهري بأن مداخل المواطنة يتطلب إعادة النظر في الكثير من سجل ثقوب السياسات للحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال
أخيرا : في تقديري أنه آن الأوان لكليات الحقوق بالجامعات السودانية الالتفات لتضمين القوانين التي سرت في السلطنات التي انضمت حديثا للسودان، لآنه يشكل جزء من مقرر تاريخ القانون وتطوره في الدولة، وتجسير لمعالجة مستقبلية لمسالة علاقات الأرض في ظل سجل التطورات المتعاقبة .