الجمعة, مايو 23, 2025
تقاريرسياسة

وداع تحت النيران

وثقت لها: هانم آدم

“بعد ثمانية عشر يوما من وفاة والدي إستطعت ستر جثمانه، وموارته الثرى، هو ومن معه من المقتولين، كنا نتحرك عقب صلاة الصبح لعدم وجود ارتكازات للدعم السريع، ونتوجه للمنزل حيث توجد جثثهم، ونبدأ في حفر المقابر حتى اذا اشرقت الشمس، وبدأ الرصاص ينهمر علينا كالمطر من سلاح القناص الذي يعتلي أعلى الجبل إتسحبنا، وعدنا أدراجنا من حيث أتينا”، بكلمات متقطعة، وصوت مبحوح لا يخلو من مرارة، غالبت عازة عبد الله دموعها المنهمرة وهي تسترجع بذاكرتها تلك الأيام السوداء، إبان إندلاع الحرب بمدينة الجنينة حاضرة ولاية غرب دارفور تلك الأحداث التي إستمرت من شهر أبريل حتي منتصف نوفمبر من العام2023م. والتي إندلعت عقب إندلاع الحرب بالخرطوم بأيام في الخامس عشر من ابريل 2023م.

عزيمة

تقول عازة إنها اضطرت ومعها شقيقتها وإخريات لسلك دروب شائكة، وأزقة لم تخلو من خطورة إنهمار الرصاص من كل صوب ، وعلي مدي ثلاثة أيام متتالية ، مابين ذهاب، وإياب للوصول الي منزلهم حيث تقبع جثة والدها،ومعه أخيها وإبن شقيقتها وابن خالتها ،وعمها وابنه وإبن بنته.في إنتظار من يأتي لحفر مقابرلها ودفنها.
فلم تثنيها أصوات الرصاص، ولا نيران القناص الذي إستهدفها من أن تقوم بواجبها تجاه والدها الشيخ عبد الله يعقوب ،فقد ظلت عازة ذات الخمسون ربيعا تناضل من أجل مواراة جسد والدها الطاهرومن معه الذين إغتالتهم ايادي الغدر.

التحلل

قصة عازة والتي لم تسمح لها نفسها بان تترك جثمان والدها الشيخ عبد الله ومن معه دون دفن ليتحللوا مثلهم مثل غيرهم من الجثث، تعتبر وأحدة من الآف القصص لنساء داخل السودان لم يُمتن حقيقة، ولكن ُمتًن من كثرة المعاناة من ويلات الحرب الدائرة في السودان وبإشكال مختلفة ، ولم تصل أصواتهن ومعانتهن للعالم علي الرغم من أنهن الأكثر تضررا من ويلاتها. لذلك حاولنا ان نفرد هذه المساحة لعكس جزء من هذه المعاناة.

وبحسب تقارير الأمم المتحدة فإن الحرب الدائرة بين القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع بالسودان خلفت أكبر أزمة إنسانية عالميا ،وهناك أكثر من (8) مليون نازح جراء الحرب منهم (88%) من النساء والأطفال.

الذعر:

تقول عازة لـ(مدنية نيوز) والتي تحولت حياتها مابين ليلة وضحاها من إمراة تعيش داخل منزلها لإمراة نازحة، ومن ثم الي إمرأة لأجئة عندما اندلعت الحرب خرج الجميع مذعورين ولا يعرفون الي اين يتوجهون ، علي الرغم من إنهم شهدوا أحداثاً مماثلة من قبل بمدينة الجنينة، والتي كانت تشهد توترات بين كل فترة وأخري . وفي كل مرة يضطرأ المواطنون للخروج من منازلهم والإحتماء بمناطق آمنة ، غير ان هذه المرة كان الضرب شديدا ، وصوت الرصاص والدانات يملأ المكان . فخرجنا والحديث لعازة مثلنا مثل غيرنا حيث تم طردنا بقوة السلاح ، وإحتمينا بحي الزهور لأنه كان الأكثر امانا وقته،وتواصل عندما دخلوا الي الحي كان والدي يقرأ في مصحفه وقد بدوأ في هدم المنازل فطلب منهم عدم القيام بذلك،وتضيف مكثنا بحي الزهور عددا من الايام وكان الإشتباك مستمرا ، فعلمت بان والدي الشيخ عبد الله يعقوب وهو شيخ الحلة ويعمل بمجمع المحاكم بمدينة الجنينة قد تم قتله ومعه ستة أخريين هم اخي الفاضل والرشيد ابن أختي،وابن خالتي يوسف عبد المجيد وعمنا عبد الله وابنه وابن بنته.

الدفن

وتواصل بمرارة بعد ان علمنا بمقتلهم قررنا ان نذهب ونقوم بالدفن ولكننا لم نتمكن من الوصول .وفي اليوم الثاني ومنذ الصباح عدنا مرة أخري ووصلنا حتي بنك الخرطوم ولكن لم يسمحوا لنا بالمواصلة في السير حيث كانت عربات الدعم السريع ترتكزبالقرب من المكان.
وتواصل عازة وهي تعتصر ألمها، وحزنها مرة أخري حاولنا الوصول عبر طريق أخر، مروراً بالاستاد غير ان كل الطرق كانت مغلقة بالإرتكازات ، فعدنا مرة اخري، وفي صبيحة اليوم الثالث وعقب صلاة الصبح حضر إلينا أحد جيراننا، وهو يتبع لإحدي القوات النظامية لتأدية واجب العزاء فطلبت منه ان يكون مرافقنا وبالفعل حضر إلينا ومعه أخر وذهبنا سويا ، وعندما وصلنا للمنزل لم نجد اي اثر لجثته . واضطررنا للعودة بسبب اشتداد المناوشات، والإنتشار الكثيف لمحاربين يركبون

وتقول عقب ذلك اليوم علمت من البعض من والدي المقتول عند الممربالمدخل الثاني للمنزل ، فقمنا في تمام الساعة الثالثة صباحا ،وتحركنا من حي الشاطي، مرورا بالمستشفي ، ومن ثم سوق الهداهيد ومن ثم إدارة المرور ثم الإستاد ،مرورا بسوق قندهار، ومن ثم حي الثورة جنوب ،حتي وصلنا ،ووجدنا جثة والدي في ذلك الممر تحت أحد الاشجار ، فقمنا بحمل الجثمان ،وإدخاله الي المنزل .اما إبن اختي فكان مقتولا بإحدي الغرف،وكذلك ابن خالتي ،اما اخي فوجدته بجانب جثة عمنا عبد الله وابنه وابن كريمته داخل المخزن الذي كنا نستخدمه لخزن المحاصيل.

الالم

عازة والتي عانت من الأمرين (عدم دفن والدها ومن معه) (وحرقة كبدها علي فقدانهم ) تقول كنت في حالة من الذهاب والإياب يوميا ، وعلمت بانه تم اخطار الهلال الاحمر ،غير انه تم منعهم من رفع اي جثة من حي الثورة . مع العلم انه كانت هناك جثث لإعداد كبيرة من الشباب ملقاة علي قارعة الطريق. ظلت لاكثر من عشرين يوما وهي ملقية في الشوارع، ولم يتم سترهم فمنهم من تحلل ومنهم من اخذته المياه،
وتواصل ووجها يرسم ملامح لا تفسر من شدة الحزن بعد مرور تسعة أيام التقيت بمولانا (محمد ) بحي الزهور فأستفسرته قائلة : (مالعمل؟) فرد علي بان جمعية الهلال الاحمر قررت ستر كل الجثامين الا انه تم منعهم من الدفن ، فطلبت منه ان اقوم بستر،والدي ومن معه فقال لي ممكن وردد عبارة (الروح عند الله، وهو أعلم بها ، ولكن الجسد لابد من ستره) .
وتقول عدنا مرة أخري لحي الشاطيء ، وعند مطلع صبح اليوم الثاني عدنا مرة أخري لحي الثورة ،حيث لا يوجد اي إرتكاز في ذلك الوقت، وبدأنا في حفر مقابر ،ولكننا لم نتمكن من مواصلة الحفر، وذلك بسبب وجود أحد القناصين بالجبل ،وكثرة الرصاص تجاهنا ،فاضطررنا بأن نترك الحفر ونرجع مرة اخري من حيث اتينا.

العزيمة

عازة والتي لم تلين عزيمتها من دفن تلك الجثامين ، ولم تبالي من مخاطر الطريق إستمرت في المجي باكرا والعودة قبل شروق الشمس، و لمدة ثلاثة ايام لحفر المقابر ، وبمعيتها شقيقتها زهراء والدة القتيل الرشيد، وعائشة زوجة القتيل يوسف عبد المجيد وإبنتها بجانب إحدي جارتها ليساعدنها في الحفر،ليتمكن في اليوم الثالث من دفن والدها والرشيد والفاضل ويوسف.
ولم يخلو صوت عازة من الحسرة وهي تشير الي إنهن لم يتمكن من ستر ودفن بقية الجثث التي كانت بالمخزن ، وذلك لشدة الظلام وإمتلأ المخزن بالمحصول.
وتعود عازة مرة اخري لحي الشاطي بعد ان سترت والدها، رغم ألم فراقها عليه ومن معه غير إنها تشعربراحة كبيرة بعد ان قامت بدفنهم،وبعد أيام من الحرب حيث شهدت المواجهات هدؤء نسبي للاحوال ،وبدأت بعض الأسر في العودة لمنازلهم من الأحياء الأخري التي إحتموا بها بحثا عن الأمان ، ومكثت عازة بحي الزهوربعد عودة الأهالي اليه . في ذلك الوقت كانت معظم المنازل قد تم حرقها ومن ضمنهم منزل ابنها.

الفرار

وتعود عازة لسرد قصتها قائلة :عقب ذلك خرجنا من حي الزهور صوب مدينة أدري التشادية ، كانت هناك أعداد كبيرة من الفارين من الحرب ، وكانت الجثث علي طول الطريق ، كما ان الطريق لم يخلو من مقتنيات الفارين الملقاة في كل مكان،وتقول وصلنا لمنطقة أدري في الحدود التشادية،ولكننا لم نجد إي إغاثة او عمل ،فتوجهنا صوب مدينة ابشي ،ومنها قررنا الخروج صوب جمهورية مصر والتي وصلناها بعد مشقة، وظللنا لشهر كامل في الطريق قبل ان نصل الي مصر، وبذلك أستدل الستار علي قصة أمرأة، ومعها أخريات أجبرتهن الظروف لحفر المقابر، ودفن أعزاء لديهن، لتبدأ فصول قصة أخرى في حياتها وهي تعيش ويلات اللجوء بدولة أخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *