ديناميات الصراع في السودان وتداعياتها على العمل الإنساني والمجتمع المدني (3-6)
كتب: عبد المنعم الجاك
منذ انطلاقة الرصاصة الأولى لحرب 15 أبريل في الخرطوم، يجري اتهام المجموعات الإسلامية بالتسبب في اندلاعها وتأجيجها وإطالة أمدها، وعرقلة جميع المبادرات الساعية لدفع الطرفين إلى اتفاق يوقف العدائيات ومن ثم يحقق السلام. أيضا، تشير التقارير إلى ان القوات المسلحة وقوات الدعم السريع ظلتا تتلقيان مساعدات عسكرية خارجية مستمرة ،في ظًل تنافس القوى الإقليمية على النفوذ والمصالح في السودان، خاصة مع توفر الموارد الطبيعية والموقع الجيوسياسي الإستراتيجي للسودان. حيث تشير المزاعم إلى قيام جمهورية مصر بتقديم الدعم العسكري للقوات المسلحة )على سبيل المثال الدعم الجوي( ،في حين تقدم الإمارات العربية المتحدة مساعدات عسكرية مستمرة لقوات الدعم السريع. بالإضافة إلى ذلك، ساهمت الكميات الكبيرة والنوعية من المعدات العسكرية من إيران وتركيا في التقدم العسكري الذي أحرزته القوات المسلحة في ساحة المعركة في الآونة الأخيرة.
مع دخول الحرب في السودان عامها الثالث، يتسيد مسرحها العسكري-الأمني التعبئة والتحشيد المناطقي والإثني ،ويعلو خطاب الكراهية والخطاب العنصري على ما سواه، ويتعمق الاستقطاب. حيث نجد أن الجيش السوداني يطلق عليها مسمى حرب الكرامة، وفي المقابل يسعى الدعم السريع على تسميتها بحرب تحطيم الدولة القديمة )دولة 56(. وحول سرديتيّ الحرب يتم التجيش والتحشيد وتستمر حملات التصعيد العسكري. وقد أدت إطالة أمد الحرب ،والثنائية والاستقطاب العسكري، الجهوي والإقليمي الحاد، بالفعل الى انخراط ودعم مجموعات ومنظمات مدنية عديدة لطرفيّ الحرب، متأثرين بسردياتها ووسائل تعبئتها.
كما ضيّق هذا الاستقطاب كذلك من فرص تطوير المنظومة العسكرية والأمنية بصورة مهنية وموحدة في سودان ما بعد الحرب، خاصة وسط دعاوى تكوين منظومة عسكرية وأمنية جديدة ،في مواجهة استمرار المنظومة الحالية، وهي القضية التي ظلت ملازمة لجميع حروب السودان السابقة.
تطورات الخارطة السياسية
ينطبق على وصف الخارطة السياسية، بعد عامين على حرب السودان، بأنه كلما ارتفعت أصوات البنادق والمعارك العسكرية، انخفضت أصوات القوى والعمل المدني والسياسي. فقبل اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023 ظل صوت القوى والتنظيمات السياسية المدنية هو الأعلى في سعيها الدؤوب لنزع فتيلها وتخفيض حدة التوترات المتصاعدة حينها بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع؛ حيث كان العملية السياسية للاتفاق الإطاري احدى أهم المبادرات الرامية إلى منع نشوب الحرب ووضع البلاد في مسار الإصلاح الأمني والعسكري، واستعادة النظام الدستوري والحكم المدني.
لقد سعت قوى الحرية والتغيير حينها، والحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، والعديد من التنظيمات المدنية ،إلى إدانة ورفض الحرب عند بدايتها بتبني موقف الحياد الإيجابي ومحاولة دعم الوصول لوقف عدائيات سريع يحول دون تمددها وانتشارها. وبالفعل منذ الأسابيع والاشهر الأولى تم تكوين الجبهة المدنية لوقف الحرب، ثم جاء تكوين تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية )تقدم(، وهو التحالف الذي سعى مؤسسيه – وغالبيتهم من تحالف الحرية والتغيير – إلى تكوين أكبر جبهة مدنية مناهضة للحرب.
وفي المقابل، اعتزلت مجموعة من التنظيمات المشاركة ضمن تحالف تقدم واختطت طريقها المنفرد في رفض الحرب ،ومنها تيار الكتلة الديمقراطية بقيادة حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة، وتيار اليسار ممثلا في التحالف الجذري، والحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال وحركة تحرير السودان. وتمثل هذه الاختلافات بين اًلقوى السياسية ،رغم اتفاقها على الهدف الإستراتيجي، امتداداً للانقسامات والتشظي الذي ظل سمتها البارزة طيلة الفترة الانتقالية السابقة للحرب.
باستطالة أمد الحرب وتصاعد حدتها وحملات الاستقطابية، ظل تحالف تقدم يتعرض لهجوم وانتقاد مستمر من قبل المجموعات المصطفة مع القوات المسلحة من مناصري حملة حرب الكرامة. حيث ظل تحالف تقدم يواجه الاتهام المستمر بأنه يمثل الظهير السياسي لقوات الدعم السريعّ. وهو ما ظل ينفيه في وثائقه ومواقفه المستمرة، مؤكداً رفضه لكلا طرفيّ الصراع، وافتقارهما للشرعية. وفي المقابل لذلك، تحولت مجموعة من القوى السياسية وحركات الكفاح المسلح، على رأسها تحالف الكتلة الديمقراطية من موقف الحياد الذي تبنته في بداية الحرب، لتعلن موقفها الداعم والمصطف مع القوات المسلحة.
لقد أدى استمرار الحرب وتصاعد حملاتها الاستقطابية – السياسية والجهوية والاثنية – إلى المزيد من الانقسام والتشظي وسط القوى المدنية-السياسية، بل حتى داخل التنظيم السياسي الواحد، حيث انقسمت العديد من الأحزاب بضغوط الاصطفاف مع هذه الطرف أو ذاك. ولم يسلم تحالف تقدم من هذه الانقسامات الداخلية، لاسيما بشأن إستراتيجية نزع الشرعية من طرفيّ الصراع، بين من يدعم تكوين حكومة موازية لسلطة بورتسودان، ومن يرى في تلك الخطوة انحيازاً لقوات الدعم السريع، بل وتصعيداً لخطر الانقسام الجغرافي بقيام حكومتين متوازيتين في شرق البلاد وغربها.
حيث انقسم بالفعل تحالف تقدم الى معسكر برئاسة رئيس الوزراء خلال الفترة الانتقالية ومجموعة من الأحزاب ،تحت اسم التحالف المدني الديموقراطي لقوى الثورة )صمود(، بينما عمل المعسكر الآخر بقيادة مجموعة مهمة من مكونات الجبهة الثورية وعدد من التنظيمات على تطوير تحالفها مع قوات الدعم السريع. ويمكن الآن توصيف المشهد السياسي بصورة عامة إلى ثلاثة معسكرات رئيسية:
المعسكر الأول يشمل التنظيمات السياسية والمدنية المصطفة مع القوات المسلحة، مثل تحالف الكتلة الديمقراطية، وقوى الحراك الوطني، وقوى التراضي الوطني، ومجموعة من الأحزاب الصغيرة ومنظمات المجتمع المدني والإدارات الأهلية. ويتبنى هذه المعسكر مجموعة من الوثائق التأسيسية، منها الوثيقة الدستورية المعدلة التي حكمت الفترة الانتقالية سابقاً، ووثيقة الطريق إلى السلام والاستقرار، والتي حظيت بدعم والقبول من قيادة القوات المسلحة.
المعسكر الثاني المصطف مع قوات الدعم السريع فيضم تنظيمات من الجبهة الثورية والحركة الشعبية لتحرير السودان شمال ورئيس حزب الامة القومي وعدد من التنظيمات السياسية والقيادات الأهلية والمدنية؛ حيث طورت هذه المجموعات وثائقها الممثلة في الميثاق السياسي لتحالف تأسيس ومسودة الدستور الانتقالي لجمهورية السودان.
بين هذين المعسكرين الداعمين للحرب، توجد تنظيمات غير موحدة تشكل في مجملها الجبهة المدنية المناهضة للحرب، ممثلة في تحالف صمود، والتحالف الجذري لقوى اليسار بقيادة الحزب الشيوعي السوداني، وحركة تحرير السودان، وحزب البعث، وعدد من التنظيمات السياسية والمدنية المستقلة.
وتواجه مجهودات بناء الجبهة المدنية الواسعة المناهضة للحرب تحديات كبيرة ومتعددة ،في مقدمتها كيفية إدارة ومعالجة اختلافات أطرافها السياسية، وتطوير وتعزيز شرعيتها كممثل للسودانيين ولضحايا الحرب، وإمكانية تأثير مكوناتها على جهود العون الإنساني، ومواجهة حملات التشويه والتظليل الإعلامية المكثفة الموجهة ضدها، والضغط والتأثير على أطراف الصراع لوقف العدائيات، والعمل على تصميم عملية سلام وعملية سياسية شاملة تنهي الحرب وتعيد إرساء النظام الدستوري. (يتبع)