إلى ياسين مع كل الامتنان
بقلم: شاهيناز سبيل
في هذا المقال، تروي شاهيناز سبيل -وهي شابة سودانية نشأت ما بين السودان وكندا وشرق أفريقيا-علاقتها مع جَدِّهَا الذي كان شخصية مؤثرة مهمة في نشأتها. تروي شاهيناز كيف كافح جَدُّهَا للحفاظ على هويته السودانية وظل مُخْلِصَاً لقيمه في وقت تَعَطَّلتْ فيه الهويات الاجتماعية والثقافية في السودان بسبب صعود الإسلام السياسي المُتَشَدِّد.
ربطتني مع جَدَّي لوالدتي (ياسين) علاقة عميقة رغم أنني لم أكن محظوظةً بما يكفي لأقضي المزيد من الوقت معه؛ حيث تُوُفِّيَ عندما كنت في الثالثة عشرة من العمر. وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ جدى لا يزال حاضراً في كل تفاصيل حياتي بحيويته وصوته العالي الذي لا يزال يَرِنُّ في أُذني ما بين حين وآخر. فقد كان ياسين يَتَوَقَّعُ ويَتَمَنَّى الأفضل دون مساومة لكل فرد من أفراد عائلته، بما فيهم أنا.
كان جَدِّي أباً لأسرة كبيرة وصاخبة. وعند كل صباح كان جَدَّي يناديني لأُحضر له عصاه الخشبية ناعمة الملمس جيدة الصنع قبل أن يتوجه إلى السوق في وسط مدينة الخرطوم، حيث أصبح جَدَّي في أواخر سنوات عمره تاجر جملة بعد أن هجر مهنة الزراعة بسبب ظروفه الصحية. كان جَدَّي يبيع مجموعة متنوعة من السلع الجافة وأيّ شيء أساسي يمكنه الحصول عليه بكميات كبيرة: من السجائر إلى أكياس الأرز. وما يثير الإعجاب في جَدَّي أنه لم يتوقف عن العمل إلى آخر يوم في حياته، وكان حينذاك في الثمانين من عمره. كان جَدَّي استثنائياً في شغفه بالناس وبتفاصيل الحياة الاجتماعية. وكان لا يَدَّخِرُ جهداً في زيارة أهله وأصدقائه، وكان يكره رؤية الناس بعيدين عنه.
لا أذكر أنَّ جدى كان يعود من السوق خالي اليدين؛ فهو دائماً ما كان يأتي مُحَمَّلَاً بكل ما يَتَيَسَّرُ، سواءً أكان كيساً من البرتقال أو الموز أو البطيخ أو الشوكولاتة أو السكر والبصل. لقد أخذ جَدَّى دوره كعائل للأسرة على محمل الجد، حتى بعد أن أصبح أبناؤه الخمسة -بما فيهم أمي- مستقلين ماليّاً. فقد ظَلَّ جَدَّي دائماً مُعْتَمِدَاً على نفسه حريصاً على إكرام ضيوفه وأصدقائه. وكان يستاء بشدة من فكرة أنه قد يحتاج يوماً ما إلى الاعتماد على الآخرين للعناية به.
شهد ياسين سنوات من الاضطراب في تاريخ السودان الحديث بدأت منذ الأيام الأولى للاستقلال، مروراً بنظام جعفر نميري العسكري، وانتهاءً بالصعود المستمر للإسلام السياسي. وحينما أتأمّلُ سيرته وتفاصيل حياته، أُدرِكُ الآن كم كان عليه أن يقاتل بجد للحفاظ على حريته وعلى استقلالية شخصيته في بلدٍ كان يتغير بشكل عميق وجذري. لقد حافظ ياسين على مبادئه المتحررة من أوهام الإسلام السياسي وطقوسه التي تغلغلت في بنيات المجتمع السوداني الاجتماعية والثقافية. فقد كان من بين القلائل الذين قابلتهم في السودان ممن احتفوا وثابروا على الاحتفاظ بقناعاتهم في ظل واقع يميل إلى إسكات التنوع وتبجيل السلوك والتفكير الجماعي.
وأنا أُدرِكُ الآن كم كان جَدِّي وحيداً في ظِلِّ ذلك الخضم الهائل من التحولات الثقافية الاجتماعية التي فُرِضَتْ على مجتمعات السودان منذ بداية التسعينيات، ولا أملك سوى أن أُقدر مقاومته وقوة روحة. فقد صَمَّمَ جَدِّي على الحفاظ على سودانيته وإسلامه كما يعرفهما منذ أن وُلِدَ، فلم يساوم أو ينساق لسطوة قيم الإسلام السياسي التي هَمَّشَتْ تَدَيُّنَ السودانيين وهوياتهم الثقافية وتقاليدهم. ظل جَدَّى دوماً فخوراً بإرثه كما هو وبثقافته. وعندما أنظر إلى الوراء تجدني جد مندهشة لرجل عادي مثل ياسين -مزارع وتاجر بسيط، لم يغادر السودان في حياته- استطاع أن يكتسب تلكم الشخصية المتماسكة والقوية. لقد رفض جَدَّي أن يتم إخضاعه أو تخويفه، وخاصة من قِبَل المُتَشَدِّدِين الدينيين، وظَلَّ مُحَافِظاً على حُرِّيَّتِه، وناضل في الوقت ذاته على أن تتمتع عائلته بالحرية نفسها.
وتماشياً مع قيمه، سمح لي جَدَّي أن أُفكِّرَ بحُرِّيَّة في مستقبلي، وذلك عندما عاملني ليس كامتداد لنفسه، بل كفرد مستقل وأنا بعد طفلة صغيرة أرادتْ أن تكون حُرَّةً في صنع قلاع الطين، وجمع الصخور، وركوب الدراجات، وقراءة كتب الديناصورات. فقد أَحَبَّ جَدَّي كل ما فعلتُ بلطف وتفهُّم. وفي ظِلِّ مجتمع ذكوري لا يزال يحمل مشاعر الاستياء تجاه مساحات التحرر التي ما فتئتْ تكتسبها النساء كان ياسين مُرَاقِبَاً جيداً وناقداً قاسياً أكثر من كونه آمراً وناهياً. وقد كان هذا السلوك غير عادي بالنسبة لرجل بخلفيته وواقعه الثقافي، الأمر الذي أصبح لاحقاً موضع تقدير كبير مِنِّي.
ومن ناحية أخرى، فقد كان جَدَّي أيضاً -وإلى حد ما- رجل زمانه. ومن الواضح أنَّ معظم الرجال السودانيين من جيله يسترشدون بنهج مماثل، حيث اهتمّوا وضاعفوا من أهمّية فِكرة وجود ملاذ مجتمعي لا ترتبط فيه فكرة الحُريّة بمفهوم الحُريّة الفرديّة ولكنها تشير ببساطة إلى قدرة الشخص على مساعدة مجتمعه. فالرجل الحق هو ذلك الشخص الذي يساعد ويتحمل مسؤولية من حوله في المقام الأول. وقد كان ياسين واحداً من هؤلاء الرجال الذين كانوا يفتخِرون بدعم أسرهم ومجتمعاتهم، الرجال الذين يعاملون جميع الأطفال من حولهم وكأنّهم أطفالهم. وفي عالم اليوم -حيث تغيرت قِيم المجتمع- قد تبدو آراء جَدَّي مثالية في أحسن الأحوال، وذلك مع ظهور مجتمع أكثر فردانية. إلاّ أنّ هذا التحوّل لم يثني جَدَّي من أن يُغيِّرَ من طريقة حياته، فقد ظَلَّ وَفِيَّاً حتي آخر أيامه على طريقته في مساعدة عائلته ومجتمعه وأصدقائه.
وعليَّ أن أعترف -هنا- أنّه على الرغم من لطف جَدَّي ومحبته لي، فقد شعرت كطفلة في أحايين كثيرة بالاستياء من وجودي في السودان. ففي ذلك الوقت، لم أستطع فهم ديناميكيات العلائق الاجتماعية؛ فقد كنتُ مثل سمكة أُخْرِجَتْ للتو من الماء، عندما أتيت إلى السودان. كنتُ ألاحظ بمزيد من الدهشة كيف يتفاعل أفراد الأُسرة مع بعضهم بعضاً، ما بين الأصوات الصاخبة والنقاشات التي لا تنتهي حول كل شيء، وتلك التحولات العفويّة ما بين الضحك العالي وأصوات الغضب الحادة. لم أستطع أن أفهم لماذا يقوم الأشخاص الأكبر سِنَّاً في العائلة دائما بإعطاء الأوامر وطرح تصوراتهم للحقائق بتلك الطريقة الجامدة والديكتاتورية. فمن المؤكد أنَّ الصغار يتمتعون بالحب والتدليل، ولكن في المقابل، هم مثقلون بتطلعات وتوقعات أفراد العائلة الممتدة. فغالباً ما يكون من حق الأهل الأكبر سِنَّاً أن يتخذوا قرارات نيابةً عن أطفالهم قد يكون لها بالغ الأثر على حياتهم فيما بعد. وعلى كل حال، لم يكن لديَّ أيّ خيار في ذلك الوقت، ولكن مع تَقَدُّمِي في السن، تعلمتُ أن أتقبل الطرق الدرامية التي ينتهجها أفراد عائلتي في التعبير عن مشاعرهم وآرائهم، وصرت أرصد تلك الطرق بنوع من المُتعة، وافترضتُ أنَّ هذا السلوك ربما هو جزء من تقاليد العائلة!
وأثناء الأوقات التي قضيتها في السودان أدركتُ أيضاً أنّ التوقعات تختلف ما بين الأولاد والبنات؛ فالسودان بلد يتمتع فيه الرجل بحرية غير محدودة في حين تستمد فيه المرأة مشروعية وجودها من موافقة الرجال في أُسرتها. وهذا النمط من العلاقات غير الصِّحيَّة بين الجنسين يتم تسوِيقه باعتباره جزءاً من الهُوية الدينية والثقافية للسودانيين. وفي هذا السياق، كان جَدَّي واحداً من الرجال السودانيين القليلين جداً الذين تفاعلوا معي بشكل صِحِّي وموضوعي دون تهديدٍ لِحُريّتي أو قمعٍ لشخصيتي. لقد كان ياسين حاسماً وواضحاً في آرائه، إلا أنّه كان موضوعياً ويمتاز بمقدرة عالية على النقاش والمحاورة، حيث كُنّا نقضي أوقاتاً كثيرة معاً ونحن نتَحَدَّثُ في شتّى الأُمور. وحتى عندما كنتُ أشعر بأنني متخلفة عن نظرائي وأقراني الذين يعملون بجد، كانت كلماته وابتسامته تهدئ من روعي. لقد كان جَدَّي يذكرني دائماً بأنَّ هناك طرقاً مختلفة للتفوق، وكان لا يرى بأنَّ هناك سبباً يُجْبِرُ المرء على السير في طريق لا يتفق وإرادته. فبالنسبة له، أن تكون حُرَّاً يعني أن تكون صادقاً مع نفسك. فهذا هو الدرس الذى لازمني، بالإضافة إلى دروس أُخرى كثيرة تعلَّمتُها منه.
وأودُّ بشكل خاص أن أذكر قصة حدثت خلال التحضير لعيد الأضحى. وكما هو الحال مع معظم الأُسر السودانية، فالعيد يوم مهم . ففي صباح العيد الباكر كنتُ -كالعادة- أذهب مع جَدَّي إلى السوق لاختيار الخروف الكبير بما يكفي لإطعام كل أفراد الأُسرة والضيوف. وأتذَكَّرُ أول مرة ذهبت معه لاختيار الخروف، كنتُ خائفة ونافرة قليلاً من فكرة المشاركة في اختيار الحيوان المُراد قتله. ومع ذلك، كنتُ أتابع جَدَّي مثل ظله، وأتأمله وهو يدور حول الخرفان، ويقوم بعمليات فحص دقيقة للتأكد من سلامة الخروف من أي عيوب خلقية، كما كان يقوم بفحص أسنانه وفرائه. أخذ جَدَّي يدي ووضعها على ظهر أحد الخراف وسألني إن كان يجب أن نأخذ ذلك الخروف الي البيت؟ أخذتُ أتأمل في الخروف المختار كما كان يفعل جَدَّي، واكتشفت أنَّ الخروف كان أنثى! لا أعرف لماذا: لكنني بدأت فجأة في الصراخ والاحتجاج مطالبةً أن يجد جَدَّي خروفاً آخر (ولداً) وليس خروفاً (بنتاً). لا تُوْحِي هذه القصة بأيِّ شكل من الأشكال، بأنَّ الإناث من الخراف يجب أن يتم تجنيبهن الذبح، ولكن كوني طفلة، كل ما كنت أهتم به في تلك اللحظة هو أنَّ هذا المخلوق الذى أمامي أنثى خروف صغيرة مثلي. وقد وافق جَدَّي على الفور على طلبي بِالرغم من سُخريِة خالي الذى كان يرافقنا.
قد تبدو هذه القصة ليست ذات قيمة، ولكنها في الحقيقة -ومن وجهة نظري- تكشف عن تعاطف جَدَّي وتَفَهُّمِه لعواطفي، وذلك أمر غير سائد في السودان، حيث يتم تجاهل المشاعر الشخصية وكل القضايا العاطفية إلى الحد الذي ينتهي بالرجال إلى عدم قدرتهم على التعبير عن عواطفهم. وبالمقابل، غالباً ما تُقَابَلُ محاولات النساء للتعبير عن مشاعرهن وآرائهن بالسخرية والنفور. لقد كان رَدُّ فعل جَدَّي -الذي وضع محنتي في الحسبان- غير عادي في هذا السياق. فتَفَهُّم جَدَّي لي، أسهم -بالتأكيد- في بناء ثقتي بنفسي كفتاة صغيرة؛ فكل ما كنت أريده حقاً هو أن تُسْمَعَ أرائي، وأن تُؤخَذَ أفكاري وتصوراتي على محمل الجد.
وحينما يفقد معظم الناس شخصاً عزيزاً لديهم، فإنهم يركنون إلى تَذَكُّر الإيجابيات. ولكن عندما فقدتُ جَدَّي، لم أستطع أن أمنع نفسي من أن أفكر في أخطائه وما كان يمكن أن يفعله بشكل مختلف. لم يكن ياسين مثالياً كجد أو أب أو رجل، ولكنه كإنسان كان جوهرة نادرة في بحر من الحصى. لم يكن ثَرِيَّاً بشكل خاص، ولم يترك حساباً مصرفياً مليئاً بالمال أو يترك ممتلكات، ومع ذلك فقد تَمَكَّنَ -على نحو ما- من ترك إرث لا يقدر بثمن. لقد منحني جَدَّي هِبَة المقاومة والتفاعل المرن مع الحياة والقدرة علي تجاوز الصعاب بكبرياء وكرامة. لقد وجد ياسين ثروته في أصدقائه، وفي عائلته، وفي مواقفه النبيلة في خِضَمِّ الأيام الحالكة، وفي مغامراته الخاسرة والرابحة، وقبل كل شيء في شخصيته الواضحة والقوية وغير الاعتذارية. وظَلَّ كما هو، مُتَّسِقَاً مع نفسه وآرائه، وأفعاله، حتي آخر لحظات حياته.
جاهد جَدَّي بشراسة وبشدة لمقاومة أيِّ عارض يلوح في الأفق، حتّى لا يخترق روحه. كان جدّى تقريباً نرجسياً في بعض الأحيان، إلاّ أنني أعتقد أنَّ ذلك كان ضرورياً. ففي ظِلِّ ذلك الواقع القاسي، فعلى المرء أن يتمحور حول نفسه لمقاومة تيارات التَّشَدُّدِ واللاموضوعية. شكراً لك يا جَدَّي لأنك قاتلتَ بشجاعة وشرف من أجل حريتك، بينما أعطيتنا كل القوة لنبحث عن حريتنا. ما أقسى غيابك. حتماً سنفتقدك ونشتاق إليك دوماً.
الكاتبة:
شاهيناز سبيل: طالبة تدرس التاريخ والعلوم السياسية في كندا، في جامعة بروك. وهي شاعرة وكاتبة قصة قصيرة، تنشر أعمالها الإبداعية في مدونتها الشخصية على الإنترنت على الرابط التالي:
http://justasudanesepoet.blogspot.com
نشر الموضوع فى مجلة المراة فى الاسلام الصادرة من شبكة صيحة العدد الرابع