الجمعة, نوفمبر 22, 2024
مقالات

أفلا نستحق الحرية والديمقراطية؟ .

بقلم: خالد فضل
في لحظات الإحباط ينطق اللسان أحيانا بما يدور في الذهن من خواطر، فنجد هناك من يطلق زفرته، مستيقنا مما يقول،( نحن شعب لا يستحق الحرية ولا يعرف الديمقراطية ), في الغالب تنطلق مثل هذه الأحكام القاسية والصادمة عندما تحدث عكننة ما للشخص مثل أن يجد موكبا يسد عليه الطريق أو اعتصاما يغلق كبري المنشية الجريف، أو جمهرة و(عوّا) أمام شباك مخبز، لا يتواني القائل في اطلاق حكمه على الشعب السوداني، ثمّ إذا كان ممن لهم بعض إلمام سطحي بمجريات الأوضاع السياسية ربما يطفق في إدارة حوار معك ليؤكد لك حكمه، فيقول لك إنّ اليسار واليمين لا يؤمنان بالديمقراطية، فهما من دبرا الإنقلابات العسكرية في مايو 1969م وفي يونيو1989م، هكذا يطلق حكمه عل الشعب السوداني الذي لا يعرف الديمقراطية ولا يستحق الحرية لمجرد أنّ يسارنا ويميننا قد دبرا الإنقلابات !! الغريب أنّ كل قائل بهذا الحكم لا يدخل نفسه ضمن السودانيين الذين يصفهم بتلك الصفات، هذا يذكرني بالطرفة التي يرويها الصديق العزيز د. محمد طه الدشين والتي ختامها على كل حال ( أمحمد أها أمرق روحك والسوّاق باقي الركاب هاكم ده) كل واحد منّا في الواقع محلل اقتصادي وسياسي بارع لا تفوته فائتة، وعلى درجة لا يرقى إليها الشك من السمو الأخلاقي والنزاهة، البقية ما عداه هم السودانيون الآخرين الموصوفين بكل نقيصة من يسارهم إلى يمينهم .
صحيح نحن شعب أوشعوب فينا ما في البشر من نقائص ولدينا مثلهم من الفضائل، سبق أن كتبت عن هذه الفرضية ما مفاده أنّ فينا عجز بائن عن العمل الجماعي وفق فضائلنا الفردية، ولهذا نبدو في الفضاء العام أحيانا كمن لا يستحقون الحرية ولا يعرفون الديمقراية، ولعل طول فترات الإستبداد والقهر قد جعل عندنا قابلية للقهر كحالة نفسية، ولكن الشواهد العملية في نفس الوقت تدحض مثل هذا الزعم، إذ أنّ جذوة التوق للتحرر من أسر الحكومات العسكرية الديكتاتورية يجري في دمائنا جيلا إثر جيل، ولعل شاعر الشعب محجوب شريف عليه الرحمة كان صادقا وهو ينشد ( عمق احساسك بحريتك ابقى ملامح في ذريتك )، صحيح تمّ استدعاء الجيش للحكم لأول مرّة في العام 1958م ضيقا وبرما من جانب حزب الأمة ورئيس الوزراء وقتها من منسوبيه ( عبدالله خليل ) يرحمه الله، ولا أدري لهواة التصنيف ما هو موقع حزب الأمة ؟ قطعا هو ليس يسار، ولكن هبّ الشعب في وجه الجنرال عبود وأسقط حكمه في اكتوبر 1964م، ثمّ تكرر ذات السيناريو عندما رأى اليسار أنّ الديمقراطية التعددية تتحول إلى ديكتاتورية تتجاوز حكم القانون وتطبّق قانون الهوس السياسي برافعة الهوس الديني، لقد تمّ حلّ الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه المنتخبين في البرلمان وعندما أصدرت المحكمة الدستورية حكمها القاضي ببطلان قرار الحل في البرلمان لم ترضخ الحكومة الديمقراطية لحكم أعلى مؤسسة عدلية في البلاد، وواصلت تطبيق حكمها السياسي المهووس، بل مشت أبعد من ذلك في اتباع خطوات اثارة التفرقة الدينية بين المواطنين عبر ما سمي بالدستور الإسلامي لبلد طبيعة أهله تقوم على التعددية الدينية، هذه الوقائع لا تمنع من يقول إنّ اليسار دبّر انقلاب مايو، دون أن يشير بوضوح إلى أنّ الإنقلاب كان قد حدث فعلا عشية طرد نواب منتخبين من مقاعد البرلمان وحل حزبهم رضوخا لجماعات الهوس الديني وليس كممارسة ديمقراطية !!هذا ليس تبريرا للانقلاب على كل حال ولكن غوص قليل أبعد (شوية) من التسطيح الجزافي ومقارنة ما دبرته الجبهة الإسلامية ك (يمين) في يونيو 89م, حيث يظهر التدبير الفعلي لليمين للإنقلاب، عُقدت جلسات لمجلس الجبهة الأربعيني وتداول فيه الأعضاء تفاصيل الإنقلاب وشاركت عناصرهم المدنية في تنفيذه، والمفارقة أنّ الدافع الأساس لإنقلاب اليمين الإسلامي هو ما بدأ من خطوات استعدال مسار التجربة الديمقراطية وانبلاج الأمل لدى الشعب السوداني بالتوصل لإتفاق سلام يحقق الوحدة الوطنية والإستقرار ونهاية الحرب الأهلية المشتعلة في أجزاء واسعة من البلاد وليس الجنوب وحده، كانتتلك هي اللحظات الحاسمة في المؤامرة الإنقلابية، فقد خرجت الجبهة الإسلامية من حكومة الوحدة الوطنية التي تأسست بموجب إعلان مبادئ اتفاقية السلام السودانية المعروفة إعلاميا ب(إتفاق الميرغني قرنق) ، لم يتم طرد أعضائها المنتخبين من البرلمان، لم يتم حل حزب الجبهة ومنعه من حقّه في العمل السياسي، لم ترضخ الحكومة للوس ولم تكسّر عمدا حكم المحكمة الدستورية، كلّ ما في الأمر أنّ الجبهة قرأت مستقبلها السياسي في حال تحقيق السلام وبناء دولة وطنية ديمقراطية تؤمن بالتعددية فعلا وممارسة، وتكفل حقوق الإنسان، وتحلّ مشكلة الحرب الأهلية وتضمن الوحدة الوطنية، قرأت أنّ تلك الخطوات بمثابة إعلان نعي صريح لكل ما شادته من قصور الهوس وما أشاعته من أدبيات الدمار الشامل والتمزيق لوحدة البلاد، قررت عندها الإنقلاب، فهل يستوي اليسار واليمين جملة واحدة وحكما قطعيا يردده قائله بارتياح من لا يريد اجهاد عقله في التفكير والتأمل.
الراسخ أنّ شعبنا تواق للحرية وقد عبّر للمرّة الثالثة عن ذاك التوق، أمّا الديمقراطية فهي ليست مبنى يتم وصفه فيصله قاصده مستعينا بالوصف، ليست سيارة يدرس أجزائها ويتعرف عليها ثم يقودها السائق هكذا بكل يسر، الديمقراطية ( عمليات) تتضمن مراحل نمو طبيعية بما في ذلك التعلم من الأخطاء، هي عملية تربية وتنشئة وليست حدثا واحدا يقع ثم نكون ديمقراطيين، هي مشوار طويل ومرهق نمشي عليه، نتعثّر ولكن يجب ألا نسقط أبدا، هي بذرة نغرسها ونتعهدها بالري والتشذيب ونوفر لها أشعة الشمس والهواء فتنمو شوية شوية حتى تغدو دوحة باذخة الأغصان راسخة الجذور، نحن شعب (بالجملة كده ) يستحق الحرية، وإن كان هناك خذلان من البعض، نحن شعب نعرف الديمقراطية وإن لم نعش مراحلها، الصبر هو ما يقودنا لتعلمّها واتقان أساليبها وتحمّل نتائجها، لا سبيل للنهوض غير طريق الحرية والديمقراطية ولا سبيل لبلوغ غاية الإنسان إلا أن يصبح الفرد حرّا، والديمقراطية هي رافعة بلوغ الغايات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *