المواطنة المدنية ومحو الأمية: خذوا العلم من الصين..!!
بقلم: مرتضى الغالي
كنا نتحدث عن علاقة الحكم المدني بالثقافة الشعبية وعن تأثيرات شيوع الأمية على المعرفة بحقوق المواطنة.. ووقعت على قراءات متفرقة عن الطرق المختلفة التي عالجت بها الدول المختلفة قضية الأمية في مجتمعاتها.. وفي حقيقة الأمر نقرّ أولاً بأن قضية مكافحة الأمية لا تجد عندنا في السودان الأهمية التي تستحقها؛ وإذا سالت عن الجهة أو الإدارة المُناط بها مكافحة الأمية لدخلت في نفق من غياب المعلومات وتفرق الصلاحيات والمسؤوليات والإشراف والمتابعة..دعك عن رسم استراتجيات وأساليب وفلسفة المكافحة، والى أين وقفت الحملات الموجهة لنشر التعليم بين الأميين ..وتتحدث مصادر شحيحة في المطبوعات والمؤلفات السودانية عن تجربة حدثت في العقد الثالث أو الرابع من القرن الماضي في مجال محو الأمية اقترنت في بلدة (أم جر) من أعمال النيل الأبيض وبأحد رجالات الوطن الموسوعيين في ميدان العمل العام والتربية والثقافة (مكي عباس) الذي عمل في حقل التعليم والإدارة وتقلد كثير من المهام الرسمية والتطوعية وكانت له صحيفة اهتمت في وقت مبكر بقضايا الديمقراطية والاشتراكية اسمها (الرائد).. فماذا حدث في (أم جر) التي تم اختيارها (محطة بداية) لانطلاق محو الأمية في القطر السوداني..؟! هذا مما يحتاج إلى بحث جاد..وكل ما اشرنا إليه أعلاه مطالعات ومتفرقات في الذاكرة حول هذا المجال، لكن أوردناها من باب الإشارة إلى أن قضية محو الأمية في السودان تتطلّب أن نضعها تحت المجهر مجدداً؛ فقد كانت لها بدايات رائعة في إطار معهد بخت الرضا ورجاله الأفذاذ ومنهم (عوض ساتي وجمال محمد أحمد وآخرون) اهتموا بهذا الجانب عبر مجلة الكبار ومجهودات دار النشر التربوي في عهدها الزاهر عندما كانت تصدر سلاسل من بينها كتيبات (كل واحد يعلم واحد)..ودائرة العلوم وغيرها من الكتب والبرامج التي ارتبطت بمحو الأمية والثقافة الشعبية.. ولكن السؤال الآن: ما هو موقع مكافحة الأمية في سلم أولوياتنا..؟!!
كم هي نسبة الأمية في السودان من مجموع السكان؟ وما هي تصنيفاتها بين الحضر والبدو وبين الفئات العمرية وبين النساء والرجال..؟ وهل تختلف بين منطقة وأخرى ومجموعات سكانية وأخرى؟ وهل يتساوى الأميون في درجة الاستعداد لتلقي العلم..؟ وما هي النماذج الأمثل لوضع برنامج موقوت زماناً ومكاناً وأهداف وآليات لمحو الأمية بالكامل وإزالة هذه الوصمة التي تحرم مواطنين من حقهم في العلم والمعرفة وبالتالي من حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية ثم من المواطنة الصالحة في مجتمع مدني راشد؟؟
هناك كما اشرنا أعلاه تجارب عالمية مختلفة لمحاربة الأمية؛ منها نماذج حققت نتائج مذهلة في مدى قصير من الزمن، وهناك تجارب طريفة وجرئية وأخرى قهرية قسرية.. والسودان ليس بدعاً في أوضاعه، ولا هو جزيرة معزولة منقطعة عن العالم ولا يسبح في (أوقيانوس مجهول) بل يتوجب علينا أن ننفتح على التجارب العالمية حتى نبدأ من حيث انتهوا.. مع اعتبار لأوضاعنا المحلية و(تبيئة) الوسائل التي تلائم مجتمعاتنا.. وهذا من البداهة التي لا تحتاج إلى تنويه..! من بين هذه التجارب العالمية ما حدث في الصين؛ وهي دولة يضاهي عدد سكانها المليار وأربعمائة مليون نسمة..وكانت من أكثر مناطق العالم احتشاداً بالأميين حتى منتصف القرن الماضي.. فاستخدمت المدارس وجعلت فيها (دورة ليلية) تماثل دورتها الصباحية لتعليم الأميين، وتحويل مجموعات كبيرة من المعلمين لتعليم الريفيين القراءة فقط..ووضعت خطة مركزية وحددت الأهداف والمؤشرات العامة وتركت لوحدات الحكم المحلي تحديد الوسائل والطرق المناسبة لكل منطقة حسب طبيعة السكان وسبل كسب العيش وأوقات الفراغ، وبدا تطبيق هذه الحملات في عام 1949 وما أن حل عام 1988 (نحو 40 عاماً) حتى انخفضت نسبة الأمية من 80% إلى 20% فقط..!! ولا زالت هذه الخطة تسير في الصين، وتشير بعض التقارير أنهم بإزاء استهداف حوالي 230 مليون أمي بينهم 72 مليوناً تتراوح أعمارهم بين 15 و40 سنة، ويعيش 90% منهم في مناطق تعاني الفقر.
أما التجربة الكوبية فقد كانت أكثر (دراماتيكية وراديكالية) وهي من التجارب المذهلة في وسائلها وفي مردودها؛ حيث أغلقت حكومة الثورة الجامعات لمدة عام كامل، وأجبرت أكثر من مليون شخص من الموظفين وطلاب الجامعات على العمل في حملات محو الأمية كجزء من تعبئة جماهيرية واسعة. كانت نسبة الأمية في كوبا عام 1960 نحو 65% وفي عام 2006 أعلنت كوبا عن انخفاض نسبة الأمية إلى 4% فقط..! وحصدت كوبا عدة جوائز عالمية باعتبارها من بين انجح التجارب التعليمية في العالم، وبحسب آخر إحصائية للأمم المتحدة فإن نسبة الأميين في كوبا لا تتجاوز 2% فقط من عدد السكان..!!
يا ترى أي التجربتين هي الأقرب للاقتداء بها في أوضاعنا الحالية في السودان..هذا إذا كانت لدينا (أصلا) الرغبة والإرادة..؟!!