المجتمع المدني.. الحبيب العائد…!
بقلم: مرتضى الغالي
يظل الإنسان هو محور صناعة الحياة مهما كان حال وطنه بين الدول في المعدلات العالمية التي تصدرها مصفوفة المؤسسات العالمية عبر تصنيفات من هم في خط الفقر أو أعلى وأدنى منه وكذلك التسميات التي تطلق على (الدول النامية) والدول الصناعية والنفطية والدول ذات الناتج المحلي المتدني أو المرتفع ودول (المرض الهولندي) ودول أحزمة الفقر والدول المنتجة والمستهلكة ومجموعة الثمانية ودول (G20) أو مجموعة العشرين.. فنظرة واحدة إلى ما صنعته بعض الدول من نهضة مفاجئة تكاد تطيح بكل هذه التصنيفات.. فلماذا تتقدم اليابان وتصبح بين الاقتصادات العليا وهي جزيرة صخرية وسط المياه وبلا موارد..؟ ولماذا تنهص رواندا من تحت الرماد خلال بضعة سنين..كما حدث ذلك في كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة والصين مع الفارق الشاسع مع الاخيرة في الحجم والمساحة والموارد وعدد السكان والموقع والمناخ..الخ
ومن المفارقات الجديرة بالذكر في هذا السياق أن كوريا الجنوبية والسودان كانا في حالة متساوية قبيل سبعينات القرن العشرين واتجه العالم إليهما معاً لمساعدتهما في بدء مسيرتهما نحو التنمية عبر مراكز للبحوث الصناعية أقيمت في البلدين وكان من المؤمل أن يكون حالهما متشابهاً ومتساوياً في التنمية والنهضة والدخل القومي والتصنيع في تسعينيات القرن الماضي وحتى عام 2000 فأين كوريا الجنوبية الآن من السودان.. وأين السودان من كوريا الجنوبية..؟!
لا بد أن هناك (أمر ما) يحدث في مملكة الدنمارك ما قال شكسبير..! فما هو السبب في التقدم هناك وارتداد السودان عن التنمية وعن النهضة هنا.. لا بد أن هناك ما يحتاج إلى المراجعة (غير حكاية الموارد) وما يتعلق بالإنسان أو بنظام الحُكم وطبيعة الادارة أو بالقيادة السياسية. وهذا ما يحتاج إلى مدارسة عاجلة وما أجمل وأجدر أن تنعقد مؤتمرٌ جامع للنظر في أسباب نكوص الحالة السودانية التي تردت بمعدلات قياسية عما كان عليه الحال عشية خروج المستعمر وانتهاء عهد الاحتلال الانجليزي .. لا بد من التفاكر العلمي الموضوعي بدلاً من هذا (الهرج السياسي) الذي لا طائل منه.. لنرى لماذا استطاعت رواندا خلال أقل من عقد ونصف أن تخرج من تحت الفقر والدماء والرماد وتبنى دولة تُعدُّ بمعايير العالم من مصاف (دول اسكندنافيا) وهي دولة في الهوامش من الفضاء الإفريقي لم يلتفت العالم إليها إلا عام 1994 عندما وقعت بها المذابح المروّعة التي لا تماثلها إلا مذابح العصور الوسطى وهجمات المغول.. ثم هي الآن تضارع فرنسا وبريطانيا في النظافة والانتظام وهندسة الشوارع وانتشار الزهور بين الدواوين والمساكن والميادين..!
هل مشكلتنا في الخدمة المدنية أم الطبقة السياسية أم المجتمع المدني أم نظام التعليم أم هو نظام الحكم .. أو هو شيء في طبيعة الإنسان السوداني..! ولا يمكن اتهام المواطن السوداني (عشوائياً) بالكسل والعجز وانعدام الطموح بالنظر إلي ثورته القريبة التي لفتت عيون التاريخ وبالنظر إلي ثورتيه في أكتوبر وابريل وما وراء ذلك من تاريخه الحضاري والنضالي.. فهل يعود السبب إلى (البيئة العامة) التي تعاقب الطموح والإبداع والابتكار وتتسامح مع (اللصوص الكبار) الذين يسرقون الأوطان ويبنون وجاهتهم على السرقات والتحايل والنهب الديواني الانتهازي ونشل الثروات بأيدي عليها قفازات من حرير..؟!! إذا كان السودان بلد فقير فمن أين له بكل هذه الأعداد الضخمة من (المليارديرات) الذين أصبحت ثرواتهم المنهوبة من السودان تنافس أثرياء العالم من لدن بيل غيتس وجيف بيزوس ومارك زوكربيرغ صاحبي “أمازون وفيسبوك”..؟! ومع كل ذلك فالسودان يفضح من يقول بفقره مع موارده الثمينة التي لا تملكها دول السوق الأوروبية المشتركة..فالسودان (ثالث ثلاثة) بين دول تشكّل الرصيد العالمي لتوفير غذاء العالم إذا ضرب الجدب الكرة الأرضية! وأرضه متنوعة الموارد؛ وهو من أثرى بلاد الله في الأراضي المسطّحة الصالحة للزراعة، ومن بين أغنى بلاد العالم في الثروة الحيوانية والمياه وثمار الغابات والمعادن، وتنوّع المحاصيل والمواقع السياحية..الخ وإذا تم التركيز على عنصر واحد من منتجاته (لاستكفى الوطن بحاله) وخرجنا على سطح الدنيا وجلسنا على قمة الاقتصادات الشامخة..!
الأمر الذي يفقر الوطن ويغنى الوطن يمكن ملامسته في نموذج نظام الإنقاذ وهو الزواج بين الجهل والفساد الذي انتهى إلى إفشال الدولة..! ولكن لابد أيضاُ من المدارسة الأوسع لنعرف هل الآفة في عدم مدنية الحكم والدولة..؟ أم هي في غياب العلمية والتخطيط.. (مع إن هذا يؤدي إلى ذاك) وفي كل الأحوال ينبغي أن ينهض المجتمع المدني السوداني نفسه للبحث عن أسباب العلة .. ونقول له بلسان أبي الطيب المتنبئ: (فيك الخصام وأنتَ الخصم والحكمُ)..!