(بيوت البنات).. بين القيم التقليدية والأدوار الريادية
قضية: صفية الصديق
يتخذ العنف ضد النساء أشكالاً متعددة بحسب طبيعة المجتمعات، وعلى الرغم من ريادتهنّ في التعليم والعمل إلا أن النساء السودانيات لا زلنّ يواجهن تعنيفاً يتنافى وما قدمْنه للمجتمع إذ يتصارع المجتمع ما بين واقع تقدم وريادة النساء وما بين القيم التقليدية المسيطرة عليه، يجئ تعنيف النساء الممنهج دائماً عندما يصبحن مستقلات بشخصيتهنّ وفكرهنّ؛ ويعلو انتقاد المجتمع لاستقلالية النساء تحديداً عندما يقررن السكن في داخليات، بيوت نساء أو أي مساكن أخرى مخصصة للنساء سواء كان ذلك بغرض الدراسة، العمل أو الاختيار الشخصي إذ ما نجد وصمتهنّ المستمرة ورغم تقدم المجتمع تتخذ أشكالاً كثيرة، فقد أحدثت قضية بيوت البنات التي تناولتها إحدى الصحف في الفترة الفائتة جدلاً واسعاً وسط النساء واعتبرن أن وصم بيوت البنات من قبل الإعلام ردة على ما حققته المرأة من مكاسب.
(مدنية نيوز) تؤمن بدور الإعلام في التأسيس لمجتمع يحترم النساء، لذا وفي حملة الـ(16) يوماً لمناهضة العنف ضد النساء تخصص هذه المساحة لـ (بيوت النبات)، إلى أي مدى ساهمت في توفير فرص للنساء في الريادة خصوصاً نساء الأقاليم، وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر تناول الإعلام لهذه القضية بتنميط يمكن أن يحرم جيلاً من الفتيات من التمتع بالتعليم والعمل.
بيوت رائدات
أتيت للدراسة بجامعة السودان في عام 2000م حيث تسكن أسرتي خارج الخرطوم، يؤمن والداي بأهمية التعليم ويوازيه السكن الداخلي، لقناعتهم الكبيرة في أن السكن الداخلي مؤسسة تعليمية قائمة بذاتها تبني الشخصية وتربي على الاعتماد على الذات، هكذا بدأت هند يحيى قصتها لـ (مدنية نيوز).
وسردت هند: (5) سنوات غيرت كثيراً من أفكاري ونظرتي للحياة، وبعد التخرج قررت الانخراط في سوق العمل في العاصمة حيث درست الهندسة ولا تتوفر وظائف في ولايتي، انتهت فترة إقامتي في الداخلية وانتقلت للسكن في داخلية للموظفات، ساهمت بشكل كبير في تغيير الأوضاع الاقتصادية في المنزل، درست الماجستير من راتبي وحالياً مسجلة كطالبة دكتوراة.
وواصلت: ما يحزنني أنه ورغم دعم أسرتي إلا أن بعض المجتمع لا يرى ما نقدمه كنساء لأنفسنا وأسرنا، فقط يرى أننا خارجات عن العادات والتقاليد، الأمر المحزن عندما تتبنى قضية التشهير بسمعة بيوت البنات مؤسسات إعلامية يفترض بها أن تنقل وعي المجتمع للأحسن فهذا يساهم في هز ثقة المجتمع في مؤسسات خرجت رائدات في مجال العمل النسوي ساهمن بشكل كبير في خزينة الدولة.
توفير عمل وتعليم
للوقوف على رأي أكبر مجموعة من النساء، نشرت (مدنية نيوز) استبياناً للرأي في مجموعة (شغل العالم) النسائية بـ (فيس بوك) عن قضية بيوت البنات والهجوم عليها، تمّ فتح المنشور لساعة حاز على (163) حالة إعجاب و(38) تعليقاً دارت جميعها حول الفرص التي فتحتها (بيوت البنات) للقادمات من الأقاليم تحديداً في توفير فرص العمل والتعليم وتغيير أوضاع بيوت كثيرة.
وذكرت دعاء عبد الباقي أنها تعرف أكثر من (100) امرأة غيّرن في أوضاع أسرهن، حيث قمن ببناء المنازل من جديد أو إعادة تشييدها وساهمن في تعليم اخواتهن واخوانهنّ، وغيرن من نظرة المجتمع الريفي للنساء العاملات وتحديداً اللاتي يسكنّ بدون ذويهمّ، رغم ذلك طالعت الأسبوع الماضي مقالاً محزناً تُتهم فيه البنات (العزّابيات) بأنهنّ شاذات عن أخلاق المجتمع بحسب وصف المقال، وهذا ما لا يتسق مع ما تقدمه هذه البيوت من تغيير اجتماعي وكسر للنظرة الدونية للنساء.
وأضافت: ما يؤسف أن هذا من شأنه أن يقود كثيراً من الآباء لمنع بناتهم من السكن التشاركي.
ورأت نسيبة عباس، أن النقطة الأهم في قضية إدارة سكن النساء أو الطالبات هي اختيارهنّ لمناطق يتمتع سكانها بالأفق المفتوح وتجنب المناطق التي لدى أهلها نظرة عدائية تجاه استقلالية النساء.
شرف القبيلة
النظرة لـ(بيوت البنات) مرتبطة بالتقاليد الموجودة في المجتمع الذكوري لأن المرأة فيه دائماً محرومة من الحريات الشخصية، ففي السابق لا يمكن للنساء أن يخرجن بدون مرافق (محرم) وقد أسست لذلك الحكومات السودانية المختلفة إذ جذّرت لهذه التقاليد عبر القوانين وهذا يجيء من عدم الثقة في النساء إذ يعتبرن عورات يمكن لحريتها أن تؤثر على سمعة العائلة، لذا ينظرون بعين الريبة حتى لمن يُسمح لهنّ بالسكن خارج العائلة لأي ظرف؛ هكذا ابتدر الباحث في علم الاجتماع د. عبد الرحيم بلال إفادته لـ (مدنية نيوز) أمس، وقال: حتى ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لا ينطبق إلا على الرجال في السودان فمسموح لهم بالخروج وممارسة العمل العام دون قيد ولا تزال النساء لا يتمتعنّ بحرية التعبير عن أنفسهنّ وقد اقتلعن مساحات كبيرة لكن عميقاً ينظر لها المجتمع بعدم القبول.
وأضاف: هنالك قيود كثيرة تفرضها علاقات الدم، العائلة والقبيلة على النساء، إضافة لارتباط شرف النساء بسمعة القبيلة والجيران في كل مكان إذ يعتبر أي فرد في المجتمع أنه ولي أمر النساء وهذا الموضوع طبيعي في مجتمعات الانتقال إلى أن تصل للحداثة.
وزاد د. بلال: في السابق كانت داخليات الطالبات في قبضة المؤسسات التعليمية تضرب عليها قيوداً صارمة بتحديد زمن الدخول والخروج ولا يمكن للبنات أن يخرجن بدون مرافق لغير الجامعة؛ أيضاً سكن المعلمات والممرضات كان داخل المؤسسات وبرقابة؛ وكذلك فإن دخول المرأة لسوق العمل والتعليم جعل النساء يخرجن من مدنهنّ ويكسرن السطوة الذكورية والتي ساهم فيها مساهمتهن الاقتصادية في الأسر.
مساهمات كبيرة
الناشطة في قضايا النساء منال عبد الحليم ذكرت أن قضية (بيوت البنات) يمكننا أن نؤرخ لها بمطلع الثمانينيات وهي الفترة التي انخرطت فيها النساء بعدد كبير في التعليم الجامعي، وبعد تخرجهنّ لا يجدن فرصاً للعمل في الأقاليم فأغلب المستشفيات والبنوك ومؤسسات العمل موجودة في العاصمة فيما عدا مهن التدريس، لذا كان التفكير في بيوت الموظفات وامتدت الفكرة للأقاليم بعد انفتاح المنظمات الوطنية والعالمية على السودان لتجد أن نساء وشابات كثيرات انخرطن في العمل في مناطق بعيدة وخطرة بشروط عمل غير مكتملة، مرتبات عالية لكن بدون تأمين رضين بهذه الأوضاع لإصرارهنّ على المساهمة في تحسين أوضاع الأسر الاقتصادية. وتابعت منال: من تجربتي الخاصة التقيت مجموعة من البنات في دارفور يسكنّ في بيوت مستأجرة ويرسلنَ (90%) من مرتباتهنّ للأسرة، إحدى البنات كان مرتبها في الأعوام بين 2003-2005 (3) ملايين جنيه سوداني في الشهر، وهو مبلغ ضخم جداً كانت تقوم بحجزه في الخرطوم وتطلب أن يرسلوا لها فقط (250) جنيهاً لاحتياجاتها الشخصية وتنفق الباقي على أسرتها. في عام 2000 وعندما قام الوالي بمنع بعض الوظائف التي تعمل فيها النساء وكانت مجموعة كبيرة منهنّ يسكنّ في بيوت البنات، كانت مجموعة كبيرة من المناصرين لعودتهنّ للعمل هم الأهل، إذ ذكر لنا والد إحدى البنات العاملات: إذا أراد الوالي بهذا القرار حفظ كرامة بنتي فلا يوجد من هو أكرم منها ومن الدور الذي تقوم به في المنزل فهي تتولى الصرف على الأكل والعلاج والدراسة.
مقاربات
وواصلت منال: بدأ نظام بيوت (العزّابة) نظاماً ذكورياً وكانت بيوتهم مشهورة في العاصمة وأغلب الأهالي يرفضون سكنهم وسط الحي ويراقبون تحركاتهم ما جعل (العزّابة) يختارون السكن في أماكن وأحياء غير تقليدية رغم ذلك كانت الفكرة مقبولة، لكن عندما وصل الأمر للبنات كان مقلقاً تحديداً لسكن العاملات في وظائف لا توفر سكناً، فالمعلمات والممرضات في السابق يسكنّ في داخليات داخل أماكن العمل وكانت في الغالب محمية بالإدارة الأهلية والشعبية للمجتمع، أتت الوصمة عندما سكنت البنات وسط الأحياء وتغيرت هذه المفاهيم كثيراً وأصبح الأهل يأتون من الأقاليم في حال المرض أو لأي سبب لكن هنالك جهات لا تزال تمارس دور النظام العام في هذه القضية.
مجتمع وصائي
الناشطة النسوية والمديرة الإقليمية للمبادرة الاستراتيجية لنساء القرن الأفريقي (صيحة) هالة الكارب، أشارت إلى أنه وحسب بنية المجتمع فإنه منذ ولادة البنت تُرسَم لها التصورات بأنها غير قادرة على أن تكون شخصية مستقلة ويجب أن تكون تحت وصاية الأسرة والرجال تحديداً، لنجد أن المرأة بعد الانفصال من زوجها يفترض المجتمع مسبقاً أنها يجب أن ترجع لبيت أهلها باعتبار أن سبب سكنها خارج بيت الأسرة قد زال، وهذا يندرج تحت مفهوم القوامة والولاية المفروضة على النساء بموجب الدين والمجتمع، لذا فإن استقلالية النساء بالضرورة توصف بأنها خارج النطاق الأخلاقي للمجتمع وتنتهج وسائل الإعلام والمجموعات النسوية التقليدية في تعاملها مع قضايا القوامة والولاية ذات المنهج الوصائي لكونهم غير متسقين فكرياً ونفسياً مع مبادئ حقوق النساء.
ومضت الناشطة النسوية والمديرة الإقليمية للمبادرة الاستراتيجية لنساء القرن الأفريقي للقول: أيضاً فإن العامل الديني وتصورات المجتمع الذكوري تلعب دوراً كبيراً في عدم تفكيك منظومة الوصاية على النساء وهذا ما يؤدي لتجاهل الدور الاقتصادي لبنات الأقاليم والتعامي عن فكرة الهجرة الداخلية الطبيعية التي تفرضها ظروف العمل.