العنصرية.. الحكايات المسكوت عنها وأحلام السلام
كتبت: صفية الصديق
صورٌ لا يمكن محوها من الذاكرة لسنين طويلة، خصوصاً وأنها صورٌ تساهم في إنتاجها القناة التلفزيونية القومية المعبرة عن سياسات الدولة، فعندما كنا صغاراً كنا نرى مشاهدَ تُصوِّر لنا القائد السوداني رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان (د. جون قرنق دي مبيور) كأنه أسدُ مسعور يعوي وتسيل الدماء من فمه ويكشّر عن أنياب صوروها كأنياب الأسد المستعد للافتراس.
لم نكن نقوى على سماع حتى ما يقولون عنه، لكن ما كان يخيفنا وقتها حديثٌ متداول تعزز المخاوف منه تلك الصورة (جون قرنق داير يعرس بت عرب)، وكانت هذه من العبارات التي أصرّ (نظام الكيزان) على ترديدها للإخافة في مجتمع بسيط وغالبه عنصري لا يقبل بتزويج بناته لـ(الجنوبيين).
وقد صُممِت هذه الرسالة بعناية لتهديم البرنامج السياسي للحركة الشعبية ممثلاً في رمزية (جونق قرنق) ولتأسيس مبدأ التفرقة العنصرية؛ هذه الرسالة وعلى بساطتنا كأطفال نعيش في مجتمع بدائي كانت مرعبة جعلتنا نصنع دفاعاتنا حسب رؤيتنا وقتها ونرفض الآخر الذي لا نعرف عن حقيقته شيء بشدة، ما يدفعنا للاختباء فور سماع تلك الرسائل ولا نقدر على مبارحة منازلنا في الصباح خوفاً من اختطافنا وتزويجنا لـ(الجنوبي)، أما الليل فقد كان حكاية أخرى من الرعب يبثها التلفاز.
صورٌ بغيضة!!
هكذا شكّل الإعلام ذاكرتنا لفترة ليست بالقصيرة ما جعلها كفيلة لتربية مجتمع يبغض الآخر ويرى كل ما هو مختلفٌ (نشازاً) أو يحاول هذا المختلف أن يتماهى مع ما هو ليس (نشازاً) في نظرة المجتمع ويتبنى انتماءً لمجموعات مقبولة اجتماعياً، ولا ينفي ذلك اعتزاز كل منا بالانتماء لمجموعته.
ورغم جهد معاول الشر على (قلب الصور) إلا أننا في هذه المساحة نحكي عما هو (مخروبٌ) ليعتدل!!.. هذه الصور أسست لعنصرية وكرّست لقبول ومواقف مبنية على اللون والانتماء، ما جعل تكويننا لأفكارنا عن الآخر في الغالب مبني على انتمائه العرقي فهو (ود/ بت حسب ونسب، حرامي، ضكران، راجل ود رجال، كسلان) بناء على لونه وانتمائه الثقافي. هذا السلوك جعل إحدى صديقاتي تتنكر لثقافتها وتصر على أنها (عربية)، وآخر يرفض أن نتعرف على أهله لأنه يخجل من (لونهم)، وأخرى كرهت أهلها عندما رفضوا (خطيبها) لأن أهله (سودانيين)، وهي مقولة أخرى لدى البعض تربط السودان بسواد اللون والعبودية والقهر، ما يجعل الكثيرين يرفضون هذه (السودانية).
من الملام؟
والسؤال الأبرز (من فينا مُلامٌ؟)، إذا كان الإعلام قد كرسّ لذلك، والمناهج التعليمية وبعض مؤسسات الوعي والاستنارة ذاتها تبغض العنصرية ظاهراً وتمارسها حين تخفت الأضواء.. فلا يمكن أن أنسى المقولة التي قالها ذلك القيادي المستنير لزميلنا عندما رآه لأول مرة في أحد أماكن العمل (دا شنو المكان كلو بقى …؟) – في إشارة إلى مواطني جهة معينة من السودان – نسي كفاءتهم ومؤهلاتهم ورأى فيهم لونهم فقط؛ أو ذلك الواعي الذي أصرّ أن يعرف ما إذا كانت صديقته (فيها عِرِق) – وهي مقولة أخرى أكثر بغضاً تُستخدم للتدليل على غير العربي بحسب المجتمع-، كل هذا ليحدد لصديق آخر إذا كان يحق له الارتباط بها أم لا!!
عدالة القانون..
صور ومشاهد مخيفة قد تقود المجتمع للهاوية تعمل بعض المؤسسات والأفراد لمحاربتها فعلياً، وأخرى وآخرون يحملون معاول الهدم وما يحدث بشرق السودان وغربه غير بعيد، ومعلوم أن الخطاب ينتج خطاباً مضاداً أكثر حدة، وهنا لابد من الإشارة إلى خطاب الكراهية الذي برز مؤخراً من قبل البعض والموجه تجاه (الشريط النيلي) –في إشارة إلى مواطني الشمال-.
قبول الآخر
وفي تحليلها لذلك الواقع قالت الاختصاصية الاجتماعية ثريا إبراهيم، إن التنوع قوة إلا أن التنشئة الاجتماعية التي لا تعزز لتقييم الذات والسعي المستمر للنسب للأبيض واللهث وراء العروبة سيقود لانهيار المجتمعات، وذكرت ثريا لـ (مدنية نيوز) أمس، أنه لا بد للإعلام والوزارات المعنية بالتعليم من ضرورة تعزيز قيم قبول الآخر والاتجاه نحو قومية الدولة وبناء العلاقات بالكفاءات وليس الألوان.
نبذ العنصرية وقوة القانون
ومن جانبه رأى المستشار القانوني جمعة الوكيل، أنه لا بد من التأسيس لنبذ العنصرية بقوة القانون، ولفت لمجهودات إحدى منظمات المجتمع المدني التي قامت بصياغة مسودة لقانون محاربة العنصرية، لأن ذلك من شأنه أن يزيل التكريس للعنصرية في تولي الوظائف العامة وفي التعليم والصحة وكل القطاعات.
عنف اجتماعي
ومن جهتها أبانت الاختصاصية النفسية لبنى المأمون، أن العنصرية تقود للقتل، وقالت في إفادتها لـ (مدنية نيوز) أمس: (كم عانى العالم القتل والإبادة بسبب العنصرية؟!)، وواصلت: السلوك العنصري نابع من إعطاء مجموعات محددة امتيازات قانونية أو اجتماعية على حساب مجموعة أخرى ما يولد لديها إحساساً بالدونية، بالتالي رفض ثقافتها ولونها والاتجاه لتغييرهما لترتقي لامتيازات المجموعة الأخرى، أو كرهها ما يولد عنفاً اجتماعياً وعدم عدالة، وتظل أكثر المجموعات تقاوم لتعتز بذاتها إلا أن هذا لا ينفي الشرخ النفسي الكبير الذي لا يمكن تجاوزه دون التأسيس لمجتمع متساوٍ.
أخيراً…
وفي هذا الإطار فإن الانتقال الديمقراطي تجاه العدالة والمساواة يحتاج لانتقال مفاهيمي وقناعة عميقة ليست قشرية يتم التأسيس لها عبر العدالة في توزيع الفرص وعبر قوانين رادعة تعيد الحقوق وتدفع الضرر وتجبر المظالم، وكذا التأسيس لإعلام حقوقي لا يجرح ولا يؤلم.
وتأسيساً على التجارب الناجحة فإن (مدنية نيوز) انتهجت منهجاً مغايراً، إذ تعمل على الأقل في رفع قدرات محرريها في مجال الكتابة (الخالية من العنصرية) لتدعم مؤسسات أخرى تجاه الإعلام الداعم لحقوق الإنسان واحترام الآخر، وتؤسس لدعم الفترة الانتقالية عبر الكتابة الداعية لللتعايش مع الآخرين، لينطلق السودان بشعبه المتسامي حقاً ليردد مع شاعر الشعب محجوب شريف والفنان القومي محمد وردي (همة وعبقرية.. ضد العنصرية وتحلم بالسلام).