من تقلي إلى طيبة.. رحلة السلام والصلات الطيبة
طيبة: عاصم الأمين – ريم عثمان
كل عام في رجب يأتي أهلنا من جبال النوبة من كل فج في منطقة تقلي العباسية ومنطقة جبل الداير، يأتون لمنطقة طيبة الشيخ عبد الباقي في زيارة أصبحت راتبة متوارثة بين الأجيال منذ مئات السنين، في مظهر من مظاهر التعايش السلمي وجوهر من عميق التواصل الوجداني السوداني.
يأتي أهل تقلي وجبل الداير يحملون خيرات بلادهم الكثيرة وفي نفوسهم محبة وسلام وود لأهل طيبة والجزيرة الخضراء، يقضون بين أهلها فترة كانت تمتد لشهر وشهرين، حتى أصبحوا يعرفون أهل طيبة ويوادونهم ويدخلون بيوتهم، ولا تقتصر زيارتهم على طيبة فقط بل يذهبون إلى أسواق أخرى في مدني والكريبة والمدينة عرب والمسلمية.
زيارة وتجارة ومحبة
الرجبية التي تأتي بأهلنا في الجبال أصبحت مظهراً حميداً لتواصل الوجدان السوداني الذي لا يعرف جنساً ولا قبيلة، إنما يعترف بالسودانوية والإنسانية، مظهرٌ فيه التعايش السلمي والتبادل التجاري، فضلاً عن العمق الروحي، حتى أصبح ما بين طيبة وتقلي زيارة وتجارة ومحبة وسلام.
ويأتي الزائرون من منطقة تقلي وجبل الداير في الزيارة السنوية لطيبة الشيخ عبد الباقي من مناطق مختلفة من شرق وغرب جبل الداير، ومن مناطق أبو كرشولا والعباسية وسوق الجبل وأبو جبيهة ورشاد وترتر ودبسه وغيرها، من مناطق تقلي، التي عددها لنا فتح الرحمن الطاهر في رحلة توارثها وأهله عن الأجداد، الذين كانوا في السابق يأتون بالدواب في رحلة تمتد لشهر في القدوم وشهر في الرجوع، ومع الشهر الذي يقضونه بطيبة تمتد رحلة القدوم والعودة لثلاثة أشهر.
ومع مرور الأيام والتطور، وكما يقول لـ(لمدنية نيوز) الناطق الرسمي باسم السجادة القادرية دفع الله الجيلي الشيخ حمد النيل، فإن القادمين تحولوا لاستخدام “اللواري” ثم أصبحوا يستقلون الآن عربات الشحن الكبيرة المعروفة “بالجامبو”، حيث يصل عدد هذه العربات القادمة في الزيارة كل رجب خلال السنوات الماضية لما يقارب الـ (٧٠٠)، أما هذا الموسم فقد قلت العربات القادمة بسبب الظروف الاقتصادية وارتفاع الأسعار، حيث يصل إيجار “الجامبو” قدوماً وعودةً إلى (450) ألف جنيه، ورغم ذلك فقد احتشد الآلاف بطيبة في رحلة التواصل الروحي والاجتماعي والتجاري.
ويشتكي أحمد محمد عثمان من الكلفة العالية للترحيل هذا العام مما حرم الكثيرين من المشاركة، وتختلف القيمة المدفوعة حسب حجم البضاعة المجلوبة بحسب “عثمان” الذي أشار لمسار الرحلة الطويل، حيث يجتمع الجميع من كل القرى المجاورة في مسيد العباسية تقلي لتبدأ رحلتهم في الجامبوهات وصولاً لكوستي حيث يقيمون فيها ليلة ذكر، ليعاودوا المسير صباحاً صوب طيبة، والتي يقيمون فيها ما بين ٧ إلى ١٥ يوماً، ويشارك فيها أحياناً كل أفراد الأسرة من نساء وأطفال، ليجدوا في استقبالهم عند وصولهم شيخ عبد الله أزرق طيبة بنفسه موفراً لهم المسكن والمأكل، متابعاً لضيافتهم بشخصه.
الصلات الطيبة
ويقول الشيخ عثمان من جبل الداير، إنه يأتي كل عام منذ (13) عاماً إلى طيبة حاملاً منتجات مناطق الجبال، ويمضي في سرد عفوي وبلغة ودودة كما كل صفات القادمين لطيبة، قائلاً: ( شغلنا للرجبية دي ببدأ من الدرت “أيام الحصاد” وبنلم القنقليز والنبق وباقي الحاجات دي)، حيث يقومون يحصاد المنتجات التي تشتهر بها تلك المناطق (تبلدي، كركدي، دوم، نبق، لالوب، وقضيم، وبهارات، ونباتات وأعشاب طبية،) إلى جانب منتجات أخرى منها ما هو معروف ومنها ما تحتاج للسؤال عنه، ومن ذلك نبته تسمى “أم خليلة” تستعمل كالشاي، يقول عبد الباقي حماد إنه بعد أن يحصد محصولاته يقوم بتجفيفها وتخزينها توطئةً لشحنها والقدوم بها إلى طيبة، حيث يستقبله أهلها بترحاب كبير وكرم، وبحسب”حماد” فإنهم يتنقلون بين عدة أسواق في الجزيرة، غير أن مركز تجمعهم طوال الأيام التي يقضونها يكون في طيبة، ويضيف أنهم كونوا صلات ومعارف كثيرة مع أهل الجزيرة وطيبة الذين يستقبلونهم بكل ترحاب حيث أصبحوا يعرفونهم بالاسم والأسرة.
ويتفق معه آدم حمدان الذي يدلل على قوة الصلات التي تربطهم بأهل طيبة وعامة الجزيرة بأنهم يواجهون عدة صعاب خلال رحلتهم إلى طيبة، منها ما يعانونه من إجراءات في نقاط التفتيش في الولايات المختلفة، التي أكد أنها تخف كلما تقدمت الرحلة حتى يدخلوا إلى الجزيرة، حيث تختفي المضايقات ويجدون الترحيب حتى من “عساكر” الارتكازات الذين يفتحون لهم المعابر ويزيحون عن طريقهم كل ما يعيق، في سلوك يعبر عن طبيعة العلاقة بينهم وأهل الجزيرة.
وذكر عبد الله أحمد أنهم يعودون بها في أوبتهم محملين بمنتجات الجزيرة كالبصل والكبكبي والعدسية والقطن والأثاث، وكذلك يشتري البعض آليات زراعية يحتاجونها في مناطقهم.
سماحة
تحدثنا إلى فتحية أحمد القادمة من منطقة جبل الدائر، وهي تقوم بصنع الطعام البلدي والشاي والبليلة وبيعهم لتجار السوق، وقالت فتحية إن: “التكية” متاحة للجميع للإقامة فيها مع الإعاشة الكاملة، لكن غالبية التجار يفضلون عدم مغادرة السوق، لذا يحتاجون لشراء الطعام، وأضافت أنها تنام في “راكوبتها” المصنوعة من الخيش ولا تغادرها، إلا أنها تحتاج أن تخرج أحياناً للمنازل القريبة من السوق لقضاء بعض حاجياتها، مشيدةً بتعامل أهالي طيبة السمح الودود، مشيرةً الى ان الصداقات مع أهل البلد تكونت على امتداد حضورهم السنوي.
أما “الحاجة حواء” فأفادت بأنها تعود مع أبنتها الصغيرة للتكية ليلاً وتعود في الصباح لممارسة عملها، وهي لا تكتفي بصنع الطعام فقط بل تجلب معها القليل من المنتجات مثل “حطب الطلح”، وأثنت “حواء” على المعاملة السمحة التي يجدونها من أهل طيبة وهم يفتحون بيوتهم لهم وقالت إنها تعرف أسراً كثيرة بطيبة، وقالت الصغيرة سمية الضو بنت ” حواء” التي تدرس بالصف السابع إنها ألحت على أمها لاصطحابها في هذه الرحلة التي وصفتها بالممتعة رغم أنها تغيبها عن الدراسة لأيام، وقالت: “البلد دي سمحة وأهلها طيبين”، هذا الاندماج للقادمين من الجبال اجتماعياً مع أهالي طيبة مؤشر قوي على قوة التعايش السلمي.
أما بريمة حامد الذي بدأ حديثه معنا بأن اسمه هو معكوس اسم حارس المريخ الشهير حامد بريمه، فيقول إنه من منطقة كمبلا بجبل الداير، والتي جاءت منها أعداداً كبيرة في عدة عربات، ويعرض بريمه “أم خليله” وهي أوراق وثمار إحدى الأشجار بالجبال يقول إنها تستخدم كشاي وهي تعالج الالتهابات، وأكد بريمه أنه تعود على أهل المنطقة حتى أنه لا يحس بالغربة، فيما يقول أحمد عبد الله من منطقة “تيري سرف النور” إنه جاء لأول مرة للتجارة والزيارة كما يقول، ويبيع أحمد ما يسمى “الكرمتوتة” وهي تستخدم كعصير وعلاج لعدة أمراض، وأضاف أن هذه المنتجات تجد إقبالاً كبيراً من أهل الجزيرة.
“عرق محبة”
أما حسن مختار فهو أتى يحمل نوعاً آخر من البضاعة يعرضها على الأرض بجانب الطريق، و”مختار” يضع أمامه الكثير من العروق والثمار والبذور غريبة الشكل، إلى جانب بقايا حيوانات وطيور وحجبات يقول إنها تستخدم في علاج الكثير من الأمراض ومنها “عروق محبة”، وأصر رغم ما أبديناه من دهشة على أنها فعالة في توطيد أواصر المحبة، رغم أنه قال إنه لا يعطيها لمن يريد استخدامها لأغراض شريرة لكنه يساعد بها لتعزيز المحبة بين أفراد الأسر.
حفيد المك قيلي
وجدنا في جانب من السوق وتحت ظل إحدى “الرواكيب” الشاب عمر أحمد آدم قيلي وهو حفيد المك قيلي والذي يبدو أنه كان قد سمع حديثنا مع بائع العروق حيث يؤكد أن صلات قوية تربط منطقة تقلي بطيبة وقال ضاحكاً: “بدون عروق محبة” وهو يعني أن ما يربط أهله بطيبة وتقلي من محبة لا يحتاج لعروق فهو نتاج قرون من التعايش والتواصل السلمي وهو أمر متوارث بين الأجيال.
أهل سلام
يؤكد يوسف الشيخ نَور الدين وهو من مواطني طيبة الملازمين للشيخ عبد الله أزرق طيبة أن أهل تقلي أهل محبة وسلام، وأن ذلك أمر متأصل ومتجذر عندهم، مشيراً إلى أنه مكث في تلك المناطق لسنوات عديدة ولمس هذا الصفات عند أهل تقلي الذين لا تجد عندهم فرقاً بين قبيلة وأخرى حد تعبيره، لافتاً إلى ما قامت عليه مملكة تقلي منذ تأسيسها في أيام المك قيلي من تعايش وسلام وتمازج حتى أن الوزراء في مملكة تقلي كانوا من القبائل العربية في المنطقة.
التعايش السلمي
يقول “يوسف” إن هذا الملمح العام للتعايش السلمي ظل هكذا حتى أصابته أيادي النظام البائد بالممارسات التي صنعت ما صنعت من مشكلات بغرض التأثير في النسيج الاجتماعي، إلا أن صفات التعايش السلمي ظلت صامدة بحسب “يوسف”، والذي يؤكد أن العهد السابق حاول ضرب الصلات التي تربط بين أهل تقلي وطيبة بما يضع من عقبات في طريق الرحلة السنوية، وأشار إلى ما تم في عهد الوالي الأسبق ايلا الذي وضع غرامات وصلت إلى (24) ألفاً على كل عربة من العربات القادمة ضمن زيارة أهل تقلي فيما يعرف بالرجبية.
متسوقون
لاحظنا حركة المتسوقين بالسوق من القادمين من داخل وخارج طيبة، وقد توثقت صلات البعض منهم بعدد من أهل تقلي، تقول سلوى وهي موظفة بوزارة المالية بالجزيرة إنها تأتي كل عام للتسوق بطيبة في مثل هذه الأيام، وتضيف وهي تجلس مع أحد الباعة هي وزميلة لها أنها تشترى من نفس البائع لعدة أعوام.
كرم أهل الجبال
ويشير عابدين أحمد محمد بابكر مقيم بمنطقة باشكار المجاورة لطيبة لمتانة العلاقات الاجتماعية مع أهالي الجبال، وقال إنه يقوم بمشاركتهم البيع، حيث يجلب بضاعته من الدمازين وحين يتعذر عليه ذلك فهم يقاسمونه بضائعهم.
أن كان ثمة شيء مشترك بين كل القادمين من تقلي وجبل الداير ممن تحدثت معهم “مدنية نيوز” فهو ما يبدو ظاهراً وطاغياً من ود وسلام لمسناه على وجوههم ومفرداتهم المفعمة بالمحبة” فضلاً عن كرم أصيل، فكل من حدثناه يطلب إكرامنا ويلح، حتى أن واحد منهم عرض علينا مالاً.
علاقة صامدة
ويظل ما بين طيبة وتقلي من صلات أنموذجاً حياً للتعايش والتواصل السلمي، وهو ما يؤكد أن ما يصل بين الوجدان السوداني من وشائج لا يفت عضده دعاوى عنصرية أو دعاية سياسية، فقد صمدت هذه العلاقة أمام المؤامرات والخطط الممنهجة لتأجيج الصراعات ذات الطابع الإثني أو الديني.