المؤسستان المدنية والعسكرية حانت لحظة الحقيقة
بقلم: خالد فضل
الكل يعلم أنّ إدارة المرحلة الانتقالية تحكمها الوثيقة الدستورية؛ تلك التي تمّ توقيعها في أغسطس 2019م، ورغم التحفظات التي أعلنتها بعض القوى الثورية على بنود تلك الوثيقة، إلا أنها شكلت في النهاية الحد الأدنى من التوافق بين المؤسسة العسكرية والقوى المدنية التي قادت الثورة الشعبية الشبابية العظيمة، وأسقطت نظام حكم الإسلاميين الذي جثم على السلطة في البلاد لمدة 30 سنة، بهذه الخلفية يُمكن النظر إلى خطوات سير الانتقال السياسي نحو الديمقراطية، وبالطبع الوصول لنظام حكم ديمقراطي مستقر ومزدهر وقابل للاستدامة والتطوير، لا يعتبر غاية في حد ذاته؛ بل هو وسيلة لغاية أسمى، هي ضمان استقرار وتقدم ورفاه المواطنين السودانيين والمواطنات على قدم المساواة، ولعل هذا يوفر لنا مقياساً موضوعياً للنظر في أداء كلتا المؤسستين تجاه تأمين بلوغ تلك الوسيلة الحيوية لضمان الوصول إلى الغاية المنشودة.
الوثيقة أقرّت وبتوقيع الطرفين؛ إجراء عمليات إصلاح شامل وحقيقي في المنظومة العسكرية والأمنية، مثلما أكدّت على ذات الإصلاح في الشق المدني من مؤسسات الدولة، وعليه شُكّلت لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد وتفكيك نظام 30 يونيو 1989م، كآلية فعالة للقيام بالإصلاح المؤسسي للخراب الذي طال دولاب الدولة السودانية على يدي سلطة الإسلاميين المُبادة، وشرعت اللجنة في أداء عملها بهمّة ونشاط، وبالطبع لازمتها بعض الهنّات، وعانت وتعاني من مقاومة شرسة من عناصر النظام المباد ومنسوبيه والمؤسسات التي لم تخلص بعد لروح الثورة، كل هذا أمر مفهوم في ظل التدافع والتنافس السياسي، كما شرعت أجهزة السلطة المدنية في عمل دؤوب ومتواصل من أجل إصلاح وتغيير بنية مؤسسات الدولة، من حيث التشريعات والضوابط والبرامج والسياسات، ولكن كل هذه الجهود كانت دوماً محفوفة بعوائق شتى، من أبرزها وأخطرها هو حالة التشظي، وروح الإنقسامات بين مكونات القوى الثورية، وحالة الاتهامات والتشكيك المتبادلة بين أطراف الملعب السياسي المدني المهيمن على ساحة الفعل بعد سقوط نظام البشير، هذه من الحقائق التي يجب مواجهتها بحزم ووضوح، الآن قوى الحرية والتغيير، والتي شكّلت القيادة الملحمية للثورة الشعبية في عنفوان مواكبها السلمية، وفي ساحة الاعتصام المعجزة، يُعاني هذا التحالف من انشقاقات وانشطارات بين مكوناته، وخرجت بعض قواه عن مؤسسته، كالحزب الشيوعي مثلاً، فيما أعلن تحالف نداء السودان مؤخراً تجمييد عضويته فيما يسمى بالمجلس المركزي لـ(ق. ح. ت)، وتبدو العديد من لجان المقاومة وتجمع المهنيين السودانيين بمنأى عن ممارسات التحالف، وهناك حالة ململة واضحة وسط كثير جداً من الشباب، تنصب حول ضعف الأداء السياسي والتنفيذي للسلطة المدنية، وتشير كثير من آراء الشباب خاصة إلى عجز القوى السياسية (الأحزاب) عن تقديم نفسها للشعب وللقوى الشبابية الصاعدة بشكل خاص، بل على العكس هناك حالة نقمة عارمة على الأحزاب كلها، هذه حقيقة لابد من الاعتراف بها من جانب القوى المدنية وبالتالي العمل على معالجتها، ورغم وعورة المسالك التي تسير عليها منظومة القوى المدنية، وتعدد وتشتت الآراء وتباعد المواقف بين هذه القوى؛ إلا أنّ كل ذلك أمر مفهوم، وليس بدعاً في كل دول العالم، فإسرائيل تعاني من انقسامات القوى السياسية، وبالكاد تمكّن نافتالي بينيت من تشكيل حكومة على كف صوت ترجيح واحد، ولبنان يعاني منذ أمد طويل من تشرذم قواه السياسية، وما من رئيس للوزراء تم تكليفه استطاع توليف حكومة حتى الآن، بل حتى الولايات المتحدة عانت من الإنقسام الحاد بين الجمهوريين والديمقراطيين، هذه الظاهرة العالمية رغم تأثيرها على وضع هش مثل وضع السودان، بيد أنّه وفي كل الدنيا تحدث الخلافات الحزبية والسياسية، بينما تبقى مؤسسات الدولة بمنأى عن هذا الانقسام، فطبيعة جهاز الدولة، التي ينبغي أن تكون عليها محايدة في لجة الاختلافات السياسية، ومن ضمن أجهزة الدولة المهمة تأتي المؤسسات العسكرية والأمنية.
يمكن أن تحدث خلافات بين حزب الأمة والشيوعي أو العدل والمساواة وتحرير السودان .. إلخ، ولكن لا يمكن أن تتشظى وزارة المالية مثلاً، أو تتوتر العلاقات بين إدارات وزارة العمل، السبب أنّ هذه المؤسسات الحكومية ذات طبيعة موحدة وتخضع للوائح وقوانين وقيادة واحدة، فليس هناك إدارة للتحصيل السريع في وزارة المالية بجانب إدارة التحصيل المعروفة، كما لم تنشأ في وزارة الثقافة إدارة للثقافة الشعبية مثل الشرطة الشعبية الموازية لشرطة السودان والدفاع الشعبي الموازي للقوات المسلحة السودانية، والأمن الشعبي الحزبي في خط موازٍ لجهاز الأمن الحكومي، كل هذا حدث في عهد سلطة الكيزان كما هو معروف لعامة الشعب، وتمّ في الأجهزة العسكرية والأمنية بصورة خاصة، فطبيعة السلطة تقوم على القهر والقمع، والمؤسسات العسكرية والأمنية هي سلطات القهر المعروفة، وهي يد السلطة لتنفيذ القانون في الدول الديمقراطية التي يحكمها القانون، وبالتالي هي أدوات القمع في الدول الديكتاتورية التي تحكمها الشموليات والبطش ودولة اللا قانون، هذه حقائق لا يمكن التغاضي عنها، كما نجد أنّ المؤسسة العسكرية والأمنية السودانية + وهي التي بيدها السلاح – وهنا مكمن الخطورة في حالة تشظيها وانشقاقها وتوتر علاقاتها البينية، هذه المؤسسات وبطبيعتها تلك، نشأ بعضها في ظروف تختلف عن الأصل في تكوين القوات المسلحة، فالدفاع الشعبي مثلاً هو منظومة عسكرية سياسية حزبية صارخة الولاء لحزب الإسلاميين، والدعم السريع تمّ تكوينه في كنف سلطة البشير المبادة، كذراع قمع وقهر ضد حركات الكفاح المسلح في إقليم دارفور تحديداً، ومراحل تكوينه كلها معروفة، ورغم أنّ القبول للكلية الحربية السودانية وكلية الشرطة قد صار حكراً على الكيزان ومن والأهم أو تمت تزكيته من جانبهم لأي سبب مثل صلة القرابة والنسب والجهة وغيرها من محددات الاختيار غير الموضوعية، وبالتالي يمكن الزعم باطمئنان أن ما لا يقل عن 25 دفعة على الأقل من خريجي تلك الكليات منذ 1989م هم في الواقع من ذوي الصلة بصورة أو أخرى بالتنظيم الإسلامي اللئيم، مع ذلك نجد الرئيس المخلوع البشير وفي خطاب جماهيري بمدينة أم روابة يتحدث عن الدعم السريع ويصفهم بعبارة ( ناسي)، وهذه درجة خصوصية لم يصف بها حتى قوات الدفاع الشعبي الذين كان يُشار إليهم بصفة المجاهدين!.
الآن بلادنا تسعى للخروج من عبء نظام الإسلاميين وتسلطهم، والفترة الإنتقالية -الطويلة نسبياً- صممت خصيصا لإكمال مهمة الإنتقال التام من دولة الحزب لدولة الوطن، وحتى تتهيأ الأرضية الصالحة لنشؤ نظام ديمقراطي مستدام، هذه الفرضية تحتم ابتداءا توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية ليصبح هناك جيش وطني سوداني بحت بعقيدة قتالية واحدة، وبتكوين شامل يستوعب كل المؤهلين الراغبين في الإنضمام إلى صفوفه، سواء مجندين أو ضباط من خريجي الكلية العسكرية، ولعله لهذا وجد إعلان المبادئ الموقع بين البرهان والحلو التأييد الواسع والقبول والإرتياح، فقد ورد فيه التأمين على وحدة التراب الوطني، ووحدة القوات المسلحة السودانية، ولعل هذا الإعلان يشكل رافعة من الروافع الأساسية لاستعدال المسار والمضي قدما في التفاوض وانجاز اتفاق السلام ومن ثمّ العودة لتأسيس القوات المسلحة السودانية بعقيدتها الموحدة وقيادتها الواحدة وضوابطها ومهامها المفصّلة، فما هي وضعية قوات الدعم السريع من هذه الترتيبات، وهل ستظل كما هي ؟ هنا منبع التخوف الحقيقي من انشطارات وانقسامات وخلافات القوات التي تحمل السلاح، لابد من الركون إلى الحقيقة، وهي أن ما من دولة مستقرة ومتقدمة وناهضة، تتجاذبها تعددية الأجهزة العسكرية، يمكن أن تتجاذبها صراعات السياسيين والأحزاب ولكن أبدا لا تحتمل تجاذبات العسكريين والمسلحين، فالخيار الصحيح في تقديري أن يُصار إلى المرعيات الأساسية التي تحكم فترة الإنتقال ومطلوباته، وهذه توفر المقياس الموضوعي لكل طرف، فأمر الوطن ومستقبل شعبه لا يمكن اطلاقا أن يوضع رهينة بين يدي أفراد أو عوائل أو رتب عسكرية كيفما اتفق !! مصير البلد يقرره شعبه، وقد قال الشعب كلمته، وخرجت قواه الحية لتدك عقليات الإحتكار والاستبداد وحكم العسكر.