الأحزمة الناسفة لأحزمة التنمية
بقلم: خالد فضل
حال اجتماعنا البشري كسودانيين يحتاج إلى تأمل فاحص، ونقد هادف، وغياب الرؤية نحو هذا الاجتماع يشكل عنصراً مهمّاً فيما نحن فيه من أوضاع مُزرية، مؤلمة حقّاً، ومُثيرة للقلق على المستقبل. وعدم وجود مشروع وطني حقيقي، تمّ بناؤه بوساطة الآباء المؤسسين ثم أضافت إليه الأجيال التالية مداميك مما وعته وما شهدته البشرية من تطور، إلى نتائج فادحة التكلفة الإنسانية. لم يكتمل لدى معظمنا الوعي الكافي بماهية الوطن، وسبل وشروط العيش المشترك، بل لم تكتمل نظرتنا لبعض كبشر، هذه مفاهيم موجودة في أذهان بعضنا أو معظمنا إذا أخذنا لحظات الاختبارات الجادة لما يلعلع به غالب السودانيين من صفات تبدو أقرب للكمال البشري.
السودان الآن يمر بمرحلة تشكّل من جديد، ولحسن الحظ ليس علينا إعادة اكتشاف العجلة، بناء الدولة القومية الوطنية صار علماً له نظريات وطرائق مجرّبة، المفاهيم والقيم الإنسانية الرفيعة لم تعد كلمات أو عبارات تقال في لحظات حماسة أو تباهٍ بالأنا، أو الـ (نحن).
دائماً لديّ ملاحظة أُبديها عند لقائي بأي مجموعة أو حتى أفراد؛ ملاحظتي أنّ السودانيين في معظمهم يربط بينهم مشترك، ما أن يتلاقوا بهدوء ويجلسوا على أي مجلس ولو كان مقعد حافلة أو طائرة، ويندلع بينهم الأنس التلقائي، ثم التعارف الابتدائي، في تلك اللحظات تظهر المشتركات: (عندي أخوي قرأ مع شاب من منطقتكم اسمو فلان، أيوا ده ود خالتي، عمتنا فلانة جارتا من منطقة كذا، ياخي جارتا دي أخت أمي)، وما أن تنتهي الرحلة إلا ويكون الأشخاص قد تفرقوا وبينهم مشتركات، أتصور أنّ الذين يتقاتلون في كل بقاع السودان يعرفون بعضهم جيداً، فليس هناك عدو مجهول الهوية يهبط فجأة على جماعة تقتيلاً وضرباً وتشريداً. هناك حالات نادرة، لكن معظم الوقائع تشير إلى وجود معرفة مسبقة بين الإخوة الأعداء حد القتل! فلماذا يحدث ذلك؟ أحد الأسباب هو التنافس غير الحميد على الموارد الشحيحة، الأراضي مثلاً أو منطقة تعدين أو متاجر أو مزارع ومواشي..إلخ، هذه كلها تمثل بؤر مقتلة لأفراد وجماعات من ذوي القربى والمعرفة والمشتركات، فلماذا لا نفكر في تنمية الموارد حتى تكفي وتفيض عوضاً عن الاقتتال حولها، فنفقد الأنفس والأرواح والتعايش المطمئن فيما بيننا ونفقد الفرصة لتنمية هذه الموارد؟ لماذا تبدو مجتمعاتنا في معظم أنحاء السودان وكأنها تعيش في حالة تربص تقعدها عن النظر إلى المستقبل بأفق مفتوح؟ لماذا ينشط في أوساطنا خطاب الكراهية والعنصرية والجهوية والمناطقية إلى درجة انشطار القرية الواحدة إلى (ورا و قدام) أو (سافل وصعيد).
لقد طرح رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك خطته للتنمية عبر ما أسماه الأحزمة التنموية، وفيها تلخيص لموارد كل السودان عبر تلك الأحزمة الممتدة طولاً وعرضاً، وداخل كل حزام منها يقطن ملايين السودانيين من مختلف التعدديات والأعراق والثقافات؛ فإذا نظرنا بتروٍّ وموضوعية إلى ذاك التقسيم التنموي، لوجدنا مفاتيح الحل للصراعات حول الموارد، ستصبح أهدافنا ومنافستنا حميدة لأن تطوير أي قطاع مما تحويه تلك الأحزمة يعني مباشرة الخير للناس هناك أولاً، ولبناء الوطن المشترك مع الآخرين في الأحزمة الأخرى، وعوضاً عن المواجهات بالعنف اللفظي والمادي، ستتواجه الأقاليم في منافسات السبق والعطاء والبناء، سيعرف السودانيون أنّهم بحاجة إلى بعضهم بعضاً، ليسوا أسياداً وعبيداً، بل كلهم أحرار كتفاً بكتف وساعداً بساعد، ستتحول العبوات الناسفة التي تنفجر الآن لإثارة الفتن والعنصرية والجهوية وخطاب الكراهية، إلى خطاب آخر، أكثر إنسانية وأفضل لغة، ولا بأس من التنافس السياسي والفكري والثقافي، هذه من مكملات البناء الوطني بشرط احترام قواعد العيش المشترك.
قبل أن أختم كلمتي هذه، جاء نبأ قرار الحكومة بتسليم المتهمين لدى المحكمة الجنائية، هذا قرار حكيم، ببساطة يشكل انتصاراً لقيمة العدالة التي تشكل أحد أهم شعارات الثورة، ولنا عودة إن كان في العمر بقية.