أحزابنا السياسية.. هل تعي الدرس
بقلم: لمياء الجيلى
نجح الشعب السوداني بكل قواه الثورية الديمقراطية في القيام بثورة سلمية هزت أركان الدكتاتورية وأرقت مضاجع حركات الإسلام السياسي في كل أنحاء العالم.. لم تكن ثورة لإزاحة دكتاتور أو تغيير أشخاص بل كانت ثورة وعى واستنارة وبناء.. ثورة تسعى لبناء وطن يسع الجميع تظلله العدالة وتعطر سماءه الحرية وتزين أرضه رايات السلام الحقيقي والمستدام. ثورة لم تتشكل بين عشية وضحاها بل جاءت نتاج تراكم ناضج للنضال الثوري على مدى ثلاثين عاما.. الأرضية الصلبة التي وقفت عليها القوى الثورية في نضالها المستميت وفى حراكها الناضج والذي توج بحراك سبتمبر 2013وديسمبر 2018 تقى الثورة وتحميها من كل محاولات الاخماد ومساعي الاختطاف.
قاد ذلك الحراك الشباب/ات والنساء بقوة وبوطنية وتجرد تام. ساعد على ذلك دور تجمع المهنين السودانيين في تنظيم وترتيب هذا الحراك الثوري. حقيقة في البداية كان دور الأحزاب (خفي) في كثير من الأحيان و (ضعيف) في بعضها بشكل لا يتناسب مع عظم الثورة السودانية وقوتها… ربما يعود ذلك لما تعرضت له الأحزاب السياسية السودانية من استهداف من النظام البائد مما أضعف قنوات التواصل بينها وبين الشباب، أو ربما لما أصاب بعضها من جمود، وجعل بعضها في حالة استرخاء تام أن لم نقل بيات شتوي.. هذه التجربة جعلت أعداد مقدرة من الشباب/ات الثوري لا ترغب في الانضمام الى الأحزاب السياسية، بل بعضهم ينظر للعديد من الأحزاب السياسية والسياسيين بعين الشك والريبة، ويحملهم مسئولية ضياع دماء رفاقهم والتباطؤ في تحقيق العدالة والانصاف لهم.
هذا الحال يضع العديد من علامات الاستفهام، ويفتح الباب لمزيد من التساؤلات، خاصة وأن البلاد مقبلة على حوارات ومفاوضات سلام ومؤتمر دستوري تتطلب الاتفاق على النظام الانتخابي الذي يريده الشعب السوداني، ويتناسب مع تركيبتنا السياسية وما يزخر به وطننا من تعددية اثنية وثقافية ولغوية. تحتاج للشفافية ومشاركة كل قوي التغيير في بناء المرحلة القادمة التي لا تتحمل اتفاقات الغرف المغلقة (المظلمة) ولا صفقات (تحت الطاولة)، بل تحتاج لحوارات ونقاشات في الهواء الطلق. كما تحتاج بشدة لصدق النوايا لنعبر المرحلة الانتقالية بسلام ونؤسس لنظام ديمقراطي سليم، يشارك فيه الجميع ويلبى متطلباتهم واحتياجاتهم.
الواقع الراهن وحساسية المرحلة يتطلب مراجعة التجارب السابقة وتقييمها والاستفادة من الأخطاء، والبناء على النجاحات. كما يتطلب الصراحة والوضوح وطرح العديد من القضايا بلا تردد، و بدون اى (تابوهات) أو (قداسات). نحتاج لتقييم آدا الأحزاب السياسي ، ومعرفة قدرتها في تشكيل المستقبل السياسي للبلاد. ومدى استعدادها لخوض انتخابات تجد التجاوب والمشاركة الحرة والنزيهة. وتلبى احتياجات ومتطلبات المواطن السوداني عبر برامجها التي ستطرحها في الانتخابات.
التجارب الانتخابية السابقة لم تنجح في تحقيق استقرار سيأسى أو قيام نظام ديمقراطي يحمى البلاد من الحروب والعنف والنزاعات، الأمر الذى يجعل التساؤل مشروعاً حول امكانية قيام نظام ديمقراطي يشارك فيه المواطن بإدارة شئون بلاده بصورة مباشرة دون تفويض (أحزاب سياسية)، و دون نظام الأكثرية والأغلبية والذي تم تجريبه كثيراً ولم يصن البلاد ولم يحميها من التشظي والانقسام، ولم يحمها من الصراعات ولم يؤدى الى استقرار سيأسى ـ ولم يخرج من دائرة الانقلابات الخبيثة. أم أننا لم نصل للنضج السياسي والوعى الذى يجعل من العسير القيام بذلك دون سيطرة الأحزاب السياسية على المشهد الانتخابي. وإذا لم يكن هنالك من مفر سوى الأحزاب السياسية فالمطلوب منها الكثير حتى تستعيد ثقة المواطن/ة وأن تستعيد دورها في تشكيل الخارطة السياسية بالبلاد. كثير من القضايا تحتاج لحوارات شفافة وهادئة حتى يتم التوافق على شكل وقانون مفوضية الانتخابات المستقلة، وعلى النظام الانتخابي، والتعداد السكاني، وعلى توزيع الدوائر الانتخابية. وفى ظل العلاقة الهشة بين الأحزاب السياسية والقوى الثورية الشبابية والتي تشكل غالبية جمهور الناخبين/ات، من الصعب ترك الفصل في هذه القضايا للأحزاب السياسية بمعزل عن القوى الثورية الأخرى والمجتمع المدني والحقوقي. فهي قضايا يجب أجراء حولها تشاور واسع، يساهم في إيصال غالبية أصوات الشعب السوداني لتعكس آراء السودانيين في أي الطرق يسلكون للوصول الى نظام ديمقراطي يحترم ويعزز الحريات الأساسية ويصون حقوق الإنسان ويحميها.
خلال الفترات الانتقالية السابقة في تاريخ السودان الحديث والتي أعقبت ثورات عظيمة، أو عقب توقيع اتفاق نيفاشا، أضاعت الأحزاب السياسية فرص تاريخية لترتيب بيتها الداخل، ولتمتين قنوات التواصل بينها وبين جماهير الشعب السوداني.. والمتابع لحراك الأحزاب السياسية وأنشطتها خلال الفترة الانتقالية يجدها تعيد نفس الكرة ولا تستفيد من مساحات الحرية لتكثيف نشاطها لتحريك جماهيرها للمشاركة في البناء وفتح الحوارات البناءة مع قوى المجتمع المختلفة حول القضايا التي تهم الجماهير. بل لم تستفد من هذا المناخ لمراجعة دساتيرها، ووضع استراتيجياتها ورؤاها لمستقبلها السياسي، وكيفية إعادة بناء ما دمره النظام الدكتاتوري وما أتلفه الدهر، حتى تسرى العافية في أوصالها ببناء مؤسسات حزبية ديمقراطية تتحلى بالشفافية وتقدم نموذج للممارسة سياسية أكثر رشداً وقوة انفتاحاً. وتعمل على تدريب وتأهيل كوادرها الشابة لنضمن مستقبل سيأسى واعد وحكيم.
العبء الأكبر يقع على عاتق الاعلاميات والإعلاميين في التوعية والتثقيف وفى متابعة ورصد العملية الانتخابية منذ الآن وفتح الحوارات وتوفير المنابر للنقاش الواسع حول كيفية الوصول الى نظام ديمقراطي سليم بدءً من الإحصاء السكاني، شكل النظام الانتخابي، قيام مفوضية مستقلة للانتخابات، قانون الانتخابات وقانون الأحزاب السياسية، والسجل الانتخابي وتحديد وترسيم الدوائر الانتخابية. وكذلك عكس ومناقشة برامج الأحزاب السياسية، وتحليلها لمعرفة الى أي مدى تلبى احتياجات المواطن. على الاعلام أن يفسح المجال لكل الأصوات ولكل فئات الشعب السوداني لعكس ما تريده والقضايا ذات الأولوية لديها ، ليساعد الأحزاب السياسية في وضع برامج انتخابية مستجيبة لحاجات جمهور الناخبين. كما عليه أن ينبه ويحذر من أي محاولات لهندسة عملية انتخابية منحازة لصالح أحزاب سياسية أو جماعات تربطها مصالح ذاتية مشتركة لا تراعى مصالح الشعب السوداني.. فتوجيه سير العملية الانتخابية والتلاعب بها يبدأ من كيفية إدارة الفترة الحالية مرحلة التصميم ووضع اللبنات الأولى وبناء المؤسسات التي تدير العملية الانتخابية.