التعثر الديمقراطي في السودان.. كتاب جديد للبروفيسور عطا البطحاني (10)
الخرطوم: حسين سعد
في هذه الحلقة العاشرة من كتاب الدكتور عطا البطحاني (التعثر الديمقراطي في السودان) تستعرض (مدنية نيوز) ما تناوله البطحاني عن انتخابات العام 1986م ونجاح الأحزاب فيها ويقول عطا: بالنسبة لأداء القوى السياسية الرئيسة في الانتخابات، نلاحظ أن الحزبين التقليديين الطائفيين، الأمة والاتحاد الديمقراطي، قد تمكنا من الحفاظ على مناطق نفوذهما الريفية، مع نجاح استثنائي لحزب الأمة في الجزيرة إلى جانب دارفور وكردفان. قد كانت الخرطوم هي المنطقة التى حققت فيها الجبهة الإسلامية تقدماً ملحوظاً مقارنة مع بقية الأحزاب، وبصفة خاصة على حساب الحزب الاتحادي الديمقراطي. فقد أدت التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت خلال فترة حكم نميري (69-1985) إلى إضعاف قواعد الاتحاديين، خاصة في معاقلهم التي يتمتعون فيها بنفوذ كبير كالخرطوم الكبرى وأقصى شمال السودان. إذ كان أكثر المتضررين من هذه التغييرات هم طبقة رجال الأعمال والتجار وموظفي القطاع العام والبرجوازية الصغيرة. فقد تم القضاء تماماً خلال هذه الفترة على شروط وجود طبقة صغار التجار، وبالتالي أصبح التمايز واضحاً بين من أثروا وأصبحوا جزءاً من “البرجوازية الجديدة” وبين من ساءت أوضاعهم في المراتب الدنيا في الطبقة الوسطى وتدهور وضعهم الطبقي إلى ما يشبه الفقراء والمسحوقين.
تشوه صورة الحزب
يقول الكاتب إن تأييد الحزب الاتحادي الديمقراطي لقوانين الشريعة الإسلامية أدى إلى تشوه صورة الحزب، وبالتالي تأليب جماهيره على قيادتهم، حيث وجدوا أن لا فرق بين حزبهم والجبهة الإسلامية ورأوا بالتالي أّلا مندوحة من التحول نحو الحزب الإسلامي “الحقيقي” ولأن الجبهة الإسلامية كانت أكثر تنظيماً من الحزب الاتحادي الديمقراطي فقد نجحت في اجتذاب الجمهور التقليدي للاتحاديين. وقد ذهب بعض المراقبين بعيداً إلى حد اتهام قيادة الختمية بالتآمر مع الجبهة الإسلامية لتسهيل نجاحها الانتخابي. فقد قدم الختمية أكثر من مرشح واحد في الدائرة الواحدة ووجهوا ناخبيهم في بعض الدوائر بالتصويت للجبهة الإسلامية “إما بالأمر أو بالإيحاء خاصة في المناطق الريفية” ومهما يكن الأمر، فإن تخوفهم من اكتساح حزب الأمة للانتخابات وعداءهم المتأصل تجاه غريمهم التقليدي هو ما حدا بالاتحاديين لعدم اتخاذ موقف علني ضد الجبهة الإسلامية حتى وإن لم يتعاونوا معها صراحة.
الجفاف والمجاعة
ويعزو البطحاني نجاح حزب الأمة في انتخابات 1986، إلى حزمة من المتغييرات منها (أ) إن التغييرات التي حدثت خلال فترة حكم نميري (1969-1985) وإن أدت لتحولات اقتصادية، إلا أنها لم تؤثر تأثيراً عميقاً لإحداث تحول في المشهد السياسي العام في البلاد ككل. وبصفة خاصة فإن التغييرات الاقتصادية والجفاف والمجاعة في غرب السودان أدت إلى حدوث حركة سكانية، وسهلت جزئياً عمليات التعبئة الجغرافية والاجتماعية، إلا أن التغييرات نفسها لم تؤثر على معاقل الحزب، (ب) كان لانتقادات الصادق المهدي المتواصلة، وانسحابه الداوي من عملية المصالحة الوطنية التي جرت عام 1977 دورها الفاعل في تمتع قائد حزب الأمة بدعم التحالف المناوئ لنميري وجعله مبادراً لانتفاضة 1985 التي أزاحت نميري عن الحكم. وفي دارفور وكردفان كان الأنصار لا يزالون يعتقدون أن الصادق المهدي ورث روح جده، الثائر العظيم محمد أحمد المهدي الذي هزم البريطانيين في القرن التاسع عشر، لذا فهو جدير بقيادة المجتمع السوداني، (ج) كان هنالك قطاع واسع من المسلمين الذين لم يشأوا أن يصوتوا لصالح الجبهة الإسلامية نظراً لارتباطها بنظام نميري. ووجدوا في برنامج “الصحوة الإسلامية” الذي تبناه الصادق المهدي طرحاً إسلامياً ليبرالياً معتدلاً يلبي حاجاتهم فصوتوا له بحماس. واحدة من محاسن الطرح الإسلامي الذي تبناه الصادق المهدي هي اعترافه بوضع المرأة في المجتمع والسياسة من خلال اقتراحه وضع دوائر للنساء ضمن دوائر القوى الحديثة. كذلك قام الصادق بترقية الدور السياسي لزوجته، سارة المهدي، مضاهياً بذلك الظاهرة التي اشتهرت بها منطقة جنوب شرق آسيا في تولي النساء أدوار القيادة السياسية.
اختراق انتخابي
النقطة الرابعة من المتغيرات حسب البطحاني فقد حققت الجبهة الإسلامية اختراقاً انتخابياً واضحاً وذلك لأنه، وبعد عملية المصالحة الوطنية عام 1977 أصبح العديد من أعضائها يسيطرون سيطرة تامة أو شبه تامة على النشاط السياسي في كل أنحاء البلاد. ونتيجة لذلك، (أ) أصبحت الجبهة الإسلامية متقدمة على كل الأحزاب السياسية الأخرى من حيث التمويل والتنظيم وتسهيلات الدعاية الانتخابية، ساعدها في ذلك وجوداً مؤثراً لكوادرها وسط القطاعات المهنية الحديثة. (ب) تمكنت الجبهة الإسلامية من بناء قاعدة اقتصادية صلبة، في القطاع المصرفي خاصة، وذلك من خلال سيطرتها على البنوك الإسلامية، وكسبها لتأييد طبقة رجال الأعمال الجدد. وقد أدركت هذه الطبقة الجديدة، التي تعمل غالباً بالتجارة، إن قادة حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي يستخدمون السياسات الاقتصادية الحكومية لإثراء مؤيديهم على حساب منافسيهم، (ج) قد أدى تعاون الجبهة الإسلامية الوثيق مع المجلس العسكري الانتقالي خلال عام 1985 إلى أن يكون لها كلمتها في وضع القوانين الانتخابية ورسم حدود الدوائر الانتخابية.
دوائر الخريجين
ومن خلال تخصيصه لدوائر الخريجين، التي استفادت منها الجبهة أيما فائدة، كان المجلس العسكري الانتقالي يأمل في تهدئة خواطر القوى الشعبية للانتفاضة. وكان أكبر الخاسرين في هذه الخدعة الانتخابية الحزب الشيوعي. ومثلما سيتضح ذلك لاحقاً يكفي أن نذكر أن الحزب الشيوعي كان قد كسب 11 دائرة من مجمل دوائر الخريجين البالغ عددها 15 في انتخابات عام 1965، التي حصل فيها الإخوان المسلمون والوطني الاتحادي على مقعدين لكل منهما، بينما حصلت الجبهة الإسلامية القومية وحدها على 22 مقعداً في انتخابات 1986 من مجموع المقاعد المطروحة البالغ عددها 28.
ويواصل البطحاني: نبهت مكاسب الجبهة الإسلامية الانتخابية كلاً من التجمع الوطني والأحزاب التقليدية إلى أن رمال السياسة المتحركة ستطول قواعدهم سواء في المدن أو الريف. عملت قوى اليسار للتقارب مع الحركة الشعبية لتحرير السودان حيث شارك ممثلون لبعض التيارات في ندوة أمبو في إثيوبيا عام 1987، و قبلها إعلان كوكادام عام 1986. ومن جهة أخرى وجد قادة الأحزاب التقليدية أنهم ليس لديهم الكثير لمجابهة الجبهة والحفاظ على نفوذهم السياسي الطاغي من دون تنظيم تحالف فعال ضد الجبهة الإسلامية. وعليه، وعلى هدي هذه الحقائق تحرك الحزب الاتحادي الديمقراطي بحذر لتسوية خلافاته مع التجمع الوطني ومع الحركة الشعبية لتحرير السودان ليصل معها في نهاية الشوط إلى اتفاقية مبادرة سلام السودان عام 1988. وقد نصت هذه الاتفاقية على عقد مؤتمر دستوري جامع لحل أزمة البلاد السياسية، وراوغ حزب الأمة مطالباً بتعديلات في الاانفاقية قبل الموافقة المتأخرة عليها.
قهر الدولة وأجهزتها القمعية
أحست قيادة الجبهة الاسلامية بأن رمال السياسة بدأت تتحرك لغير صالحها، خاصة بعد مذكرة القوات المسلحة لرئيس الوزراء في فبراير1989 التي قُرِأت وكأنها دعماً لمبادرة السلام بين الميرغني وقرنق. لإجهاض هذه المبادرة السلمية ولمنع عقد المؤتمر الدستوري استولت الجبهة الإسلامية على السلطة من خلال انقلاب عسكري عام 1989. لم تواجه الانقلاب أية مقاومة شعبية تذكر، وحظي بدرجة من التأييد الشعبي لا يمكن إنكارها. ذلك لأنه كان هنالك ثمة إيمان بالسياسات التي أعلنها قادة الانقلاب العسكري، المتمثلة في محاربة الفساد وتفعيل الاقتصاد والحفاظ على سلامة أراضي الأمة ضد ما رأته السلطات تهديداً تمثله مبادرة الميرغني – قرنق عام 1988 وقبلها إعلان كوكادام عام 1986. وعملت قيادة الانقلاب على التمويه داخلياً وخارجياً بالنسبة لطبيعة الانقلاب، تمويه انطلى على البعض في الخارج أكثر من الداخل، بالرغم من درجة التأييد الذي حظي به من باب الاستياء من حكم الأحزاب. كانت الجبهة الإسلامية هي الحزب الوحيد الذي تمكن من تحقيق كسب سياسي من الدعم الشعبي الجزئي الذي حظي به الانقلاب، ولأنها هي التي دبرت الانقلاب فقدت عمدت لكشف هويتها بعد أن عملت على تثبيت سلطتها عبر “قهر الدولة وأجهزنها القمعية”. وظهرت نوايا السلطة الجديدة، السياسية والأيديولوجية، التي تهدف في جوانب منها لترويض البرجوازية الشمالية واستيعاب شرائح أخرى من الهامش وإبقائها تحت سيطرتها. ووضح جلياً خلال عقد التسعينات أن السياسات المعلنة للجبهة الإسلامية صعبة التحقيق مثلما كان الحال دائماً مع الأنظمة السابقة وسرعان ما تبددت الآمال الشعبية فيها. (يتبع)