نزيلات يعانين الأمرين.. سجن النساء بأمدرمان ضعف الطاقة الاستيعابية والحاجة للتأهيل
تحقيق: عائشة السماني
(كنت أموت بالبطيء وأنا داخل السجن، كنت أشعر بالموت يقترب مني في كل دقيقة، هكذا ابتدرت (س .ع) التي كانت محكومة بالإعدام وفقاً للمادة (130) من القانون الجنائي المتعلقة بالقتل العمد.
ابتدرت (س.ع) حديثها لـ(مدنية نيوز) بسرد معاناتها داخل سجن النساء بأمدرمان بشعورها بالموت، وتنهدت ثم قالت: (لا يمكنني نسيان عذابي جراء القيد بالجنزير، وستبقى ذكراه معي إلى أن أموت، هذا هو الموت بالبطيء وفي لحظات كثيرة تمنيت أن يتم اعدامي أو تنتهي حياتي حتى أرتاح منه، إنه إذلال للإنسان ويبديه وكأنه حيوان).
تفاصيل المعاناة
وأوضحت محدثتنا في إفادتها أنه يتم تقييد أرجل المحكومات بالإعدام بالجنزير الذي يوصل برباط أسفل (السُّرة)، وهو حديد ثقيل الوزن تكون المحكومة مقيدة به طوال ساعات اليوم (تنومي بيه وتدخلي بيه الحمام ولا يتم فكّه إلا عند الإعدام أو موت المحكومة موتاً طبيعياً أو إذا جاءها عفو لتخرج من السجن)، (غير ذلك يظل ملازمها وهو مؤلم جداً وحتى الدورة الشهرية كانت مضطربة وتأتيني مرتين أو ثلاث مرات في الشهر واعتقد أنه السبب).
مناشدة
وأضافت: (أتمنى من المنظمات التي تعمل في مجال حقوق الإنسان أن تجد حلاً لمشكلة القيد بالجنزير، لأن فيه دمار نفسي وجسدي لا يوصف، وكلما أتذكره ينتفض جسمي وأرتعش من الداخل).
وتواصل (س.ع) التي تبدو آثار القيد على رجليها بقولها: عندما نطق القاضي بكلمة الإعدام رجعت السجن واعتبرت أن حياتي قد توقفت، وكلما يتكرر ذلك المشهد بحضور إحدى المحكومات بالإعدام من المحكمة تتأثر كل النزيلات وحتى السجانات، لكنهن يحاولن أن يخففن مشاعرهن ليخففوا عن المحكومة، وفي العادة يوجهن لها الحديث: (ما بتحصل أي حاجة وبتفرج بإذن الله وكلام من النوع دا).
وأبانت (س.ع) أن السجن له قوانين وكل مديرة لديها تعامل مختلف، وذكرت: (بقيت في السجن خمس سنوات ونصف السنة قبل أن يتم إطلاق سراحي بالعفو، تعاقبت خلالها على السجن خمس مديرات، فيهن اثنتان كانتا تعاملان السجينات بقسوة، أما الأخريات فكانت معاملتهن جيدة).
وأفادت أن الضابطات وضابطات الصف (الصولات) يختلف تعاملهن للنزيلات وفقاً لتعامل كل سجينة فإذا كانت غير مشاغبة يحسنّ معاملتها، وتابعت: (لكن هناك مسجونات شرسات وأحياناً يعتدين على بعضهن أو على السجانات، مما يعرضهن لأنواع من العقاب مثل نظافة الحمامات، الحبس الانفرادي، والتقييد بالجنازير، وفي بعض الأحيان تضطر إدارة السجن إلى جلب شرطة مكافحة الشغب، وأحياناً تكون المذنبة واحدة لكن العقاب يعم الجميع.
وأردفت: أشد عقاب تعرضنا له، وتمنيت الموت على إثره عندما هربت إحدى السجينات من السجن، وفي رمضان ونحن صيام تم إجلاسنا في الشمس ونحن حافيات طوال النهار، وفي المساء تم حبسنا في الزنازين رغم أنه لم يكن لنا يد في هروبها ولم يقبض عليها مرة أخرى حتى تظهر الحقيقة.
تمييز في التعامل
وأشارت (س.ع) إلى وجود تمييز في التعامل داخل السجن، وقالت: (ناس الشيكات مميزات، عندهن مراتب وأَسِرّة، ولديهن حمامات كافية، ونحن المحكومات بالإعدام كذلك، حتى عندما كنا في الانتظار مكثت 3 سنوات حيث تعاقب على القضية خمسة قضاة، وبعد الثورة وقفت المحاكم فترة)، وزادت: لكن المحكومات في قضايا السرقات والخمور والأعمال الفاضحة عادة يرقدن على الأرض وحتى إذا كانت هناك نزيلة في سرير يتم إنزالها الأرض إذا أُحضرت أخرى محكومة في الشيكات، وبعد الحكم يمكن أن تجد النزيلات أَسِرّة ويمكن ألا يجدن فيفترشن في الأرض.
وحول المحكومات بأحكام قصيرة، قالت (س.ع): (ناس الحوش ناس الأحكام القصيرة ديل في حمامات بسيطة، مرات الحوش بكون فيه قرابة خمسمائة محكومة وفي عشرة حمامات، وهي طوالي بتطفح وبالليل يجدن الأوساخ في الحوش ويتم المشي فيها.
عالم عجيب
السجن دا عالم عجيب فيه أي حاجة (حبوب التسمين وغير ذلك من المكيفات والسجاير والصعوط وحبوب الخرشة، كلها موجودة وتدخل بالخفاء، ورغم وجود علاج نفسي ومَشغَل ومسجد وكنيسة، لكن بعض المحكومات يكنّ في حالة إحباط وخاصة النزيلات في قضايا القتل العمد.
وختمت (س.ع) حديثها: كنت خائفة المجتمع ينبذني، لكن الحمد لله لقيت المجتمع احتواني.
إقرار بالتردي وضعف الإصلاح
ومن جانبه قال مصدر عليم بالسجن تحدث لـ( مدنية نيوز) إن بيئة السجنة مزرية جداً والحمامات تطفح حتى تملأ حوش السجن، وأحياناً تطفح خارج السور ولا توجد إيرادات حتى يتم شفط مياه الصرف الصحي، وهناك مشكلة في توفير ماء الاستحمام والغسيل، بالإضافة إلى انتشار كمية من الذباب والبعوض، وعدم توفر كثير من الأدوية في الوحدة العلاجية، ولا يوجد غير البندول في أغلب الأحيان، والسجن مزدحم جداً بالنزيلات والقوة الاستيعابية له (250) نزيلة وحالياً به (450) نزيلة، وعدد الأطفال مع أمهاتهم (63) طفلاً.
ونبه المصدر إلى ضعف الإصلاح في السجن (لأن السجينة تعيش في بيئة سيئة جداً، وربما تخرج وهي مدمرة نفسياً أو ساخطة على الحياة والمجتمع، والأطفال يعيشون في جو غير صحي).
وأوضح ذات المصدر أن عدداً من الأسِرّة تكسرت، وأن عدداً من النزيلات يرقدن على الأرض، وأشار إلى وجود حوالي (40) باحثة بمكتب الخدمة الاجتماعية لكنه لا يعمل بالمستوى المطلوب بسبب ضعف المرتبات وعدم توفير ترحيل، وذكر: (لذا خدماته ضعيفة للغاية).
الصورة من صفحة سجينات على الفيس بوك
جانب من أحوال النزيلات
ولفت المصدر إلى المعاناة الشديدة للسجينات، حيث تنشب بينهن العديد من المشاكل بسبب قلة الموارد والمرافق وأحياناً يضربن بعضهن ضرباً مبرحاً حتى تسيل الدماء، مما يجعل إدارة السجن تجلب لهن شرطة مكافحة الشغب، كما أن بعضهن يستغللن أخريات مادياً ويسخرنهن في خدمتهن الشخصية، وتوجد سجينات قويات بدنياً تتسلطن على الأخريات.
تأزيم الوضع ومجافاة الحقوق
وكشف المصدر ذاته أن عودة قضايا النظام العام أسهمت في زيادة تأزيم الوضع وزادت الضغط على المرافق الصحية، وهناك استنزاف للموارد وحتى الشرطيات في السجن أنفسهن يعانين ووضعهن سيء جداً مما يجعل بعضهن يلجأن إلى استغلال مسجونات، وزاد: (باختصار بيئة السجن لا تصلح للإنسان وتفتقر لمراعاة الحقوق الإنسانية).
وفي ذات السياق ابتدرت المحامية والمدافعة عن حقوق الإنسان يسرا كرم الدين حديثها لـ ( مدنية نيوز) أمس بقولها: (السجن مملكة قائمة بذاتها ولديها لوائح وأوامرها الداخلية، ونحن كقانونيين أو محامين لم نطلع على هذه اللوائح وهي غير متوفرة لدينا، لكنها موجودة داخلياً وتنظم حياة السجينات داخل السجن).
وأبانت يسرا، أن هناك تقسيمات داخل السجن (المنتظرات والمحكومات والمعتقلات سياسياً)، والمنتظرات هن الشريحة التي يمكن أن تكون أقلية في السجن والاهتمام بهن لا يكون كبيراً ويوجد لديهن عدم انتماء للسجن ذات نفسه، وأن الإدارة في الغالب تتعامل معهن على أساس أنهن يشكلن عبئاً على السجن، أما حالة الانتماء للسجن فتتوفر بصورة حقيقية بعد أن يتم الحكم عليهن وتدرج أسماؤهن ضمن نظام السجن.
وقالت يسرا: حسب مقابلتي مع منتظرات حول وضعهن فيقلن إنهن يودعن في (عريشة من الزنك الأمريكي في الحر الشديد، حيث يعانين ارتفاع درجات الحرارة في الصيف ومن البرد في الشتاء، خاصة السجينات كبيرات السن).
عقبات
وتابعت يسرا: توجد وحدة علاجية في المركز الصحي داخل السجن، وإذا استدعى الحال يتم التحويل إلى مستشفى خارجي، وهناك صعوبة لأن إدارة السجن تقول إنها غير مسؤولة عن إخراج السجينة المنتظرة للعلاج خارج السجن، وتطلب الموافقة من الجهة التي أحضرت السجينة ووضعتها في الانتظار، مثل النيابة أو المحكمة التي تتبع لها السجينة المنتظرة، وبعد الحصول على الإذن في بعض الأحيان تتعلل إدارة السجن بعدم توفر وسيلة مواصلات لنقل المنتظرة إلى المستشفى الخارجي، وكذلك عدم توفر شرطية للحراسة لأن لديهن دوام، وكشفت عن مواجهتهن بعراقيل، ورددت: (وإذا كان الوضع المادي للسجينة جيداً فإن أهلها يتكفلون بتوفير وسيلة المواصلات وتخصيص مصروفات شخصية للشرطية، وبذلك تتمكن من مقابلة اختصاصي خارج السجن، أما غير ذلك فلا تستطيع.
إجحاف وطول انتظار
وأوضحت يسرا، أن الانتظار يمكن أن يصل في أقصى حد إلى سنتين، وأشارت إلى أن القضايا التي يتم فيها الانتظار لفترة طويلة هي قضايا (القتل، المخدرات، والقضايا ذات الأدلة المعقدة)، ونبهت إلى أن القانون يتضمن أنه إذا كان هناك شخص سينتظر في جريمة فمن المفترض ألا يجدد له زيادة عن (6) شهور إلا بموافقة رئيس الجهاز القضائي المختص، وأن تكون أسباب التجديد مقنعة، وقالت: هذا لا يحدث في كثير من الأحيان، ويوجد إجحاف في حق متهمات يتم التجديد لانتظارهن من غير الرجوع للقانون، ومثلت لذلك بسجينة قبعت في السجن “8” شهور دون أن تبدأ محاكمة حقيقية لها.
وقالت يسرا: بالنسبة للوضع في السجن فإن عدد الواجبات غير كافٍ، ويمكن أن تكون وجبيتن في اليوم وأحياناً وجبة واحدة، أما بالنسبة للمنتظرات فهن يجدن نصيبهن لأنهن يشاركن في إعداد الطعام، وتوجد بقالة في السجن يتوفر بها كل شىء.
وبخصوص الحقوق الدينية لفتت يسرا، إلى السماح بممارسة كل الشعائر الدينية لوجود مسجد وكنيسة، وهناك منظمات لديها مكاتب داخل السجن تقدم خدمات للسجينات، والتصوير ممنوع وكذلك التوثيق مع أية سجينة والمقصود بذلك هو التسجيل، لكن الكتابة باستخدام الورقة والقلم ممكنة.
حوجة لتطوير وتأهيل
وحول الخدمات الاجتماعية، قالت المحامية المدافعة عن حقوق الإنسان يسرا كرم الدين: في مكتب الخدمة الاجتماعية توجد أكثر من 8 باحثات، وأحياناً يكون معهن مدربين، وأحياناً من يقضوا فترة الخدمة الوطنية، ويعمل المكتب على مراقبة الأحوال الاجتماعية للسجينات وربطهن مع الجهات التي يمكن أن تقدم المساعدات، ولكل سجينة ملف داخل المكتب فيه تاريخ دخولها ونوع الحكم وحتى المنتظرات لديهن سجلات حتى خروجهن أو إحضارهن بصفة محكومات، وأضافت: المكتب يحتاج تأهيلاً وتطويراً لأن الخدمة التي يمكن أن بقدمها كبيره للغاية.
حكم القوة
ونبهت يسرا، إلى وجود ممارسات عنف في عالم السجن وهناك سجينات قويات البنية يمارسن عنفاً على أخريات ويستخدمنهن في أعمال سخرة، وتوجد عقوبات تجاه السجينات المشاغبات، مثل نظافة الحمامات وهذه هي العقوبة الغالبة، والحبس الانفرادي، كما أشارت إلى وجود استغلال لسجينات مادياً من قبل بعض الشرطيات، ووصفت الضغط على السجن بالعالي، وخاصة في توفير الحمامات والماء، و(يحتاج هذا الأمر لتأهيل أو بناء سجن آخر).
خطأ فادح
وكشفت يسرا، عن قصة تضمنت خطأً جعل المتهمة تدفع ثمناً غالياً، وقالت (هناك متهمة في بلاغ سرقة حكم عليها القاضي بالسجن والجلد 100 جلدة وهذه العقوبة معروفة أنها لحد الزنا، ورأت أن القاضي أجحف في ذلك الحكم عليها وهي تبلغ من العمر 19 عاماً، ورغم أن الحكم في مرحلة الاستئناف إلا أن الجلد يتم في السجن وليس في المحكمة)، وأوضحت أن العقوبة نفذت واعتقدت السجينات أن تلك الفتاة محكومة بالزنا وأصبحن (يتنمرن) عليها لفظياً وينعتنها بالزانية وألفاظ أخرى بذيئة، وتم التعدي عليها بالضرب، ورغم أن لديهن أخطاؤهن التي أودت بهن للسجن لكنهن يرين أن تلك الأخطاء مبررة في مقابل الخطأ المعتقد من قبلهن تجاه تلك الفتاة.
وشددت المحامية الدافعة عن حقوق الإنسان يسرا كرم الله، على عدم تنفيذ عقوبة الجلد ما لم يكن هناك حكم نهائي ومن المحكمة العليا، وذكرت: كان الحكم في مواجهة تلك الفتاة قابلاً للاستئناف ورغم أن المحامي طلب إرجاء الجلد حتى تظهر نتيجة الاستئناف، إلا أن القاضي لم يكتب ذلك لإدارة السجن وعندما ظهرت نتيجة الاستئناف تم إلغاء الحكم كله بما فيه الجلد، وهنا وقع ظلم فظيع على المتهمة، وفي هذه الحالة يمكن أن تطلب تعويضاً من القاضي وإدارة السجن، وهناك سؤال (في مواجهة من تتم الشكوى؟)، وقالت في هذه الحالة المسؤولية مشتركة، وإدارة السجن تقول أنا منفذة لقرار القاضي).
ضغط عالٍ وحوجة لتأهيل
ومن جهته وصف قاضي يعمل حاليا في احدى المحاكم ، وضع النساء في سجن أمدرمان بالمزرٍ جداً، وأبان أن المنتظرات يوجدن في عريشة من الزنك الأمريكي والسعة الاستيعابية للسجن تبلغ (250) نزيلة، (لكن العدد يكون دائماً أكثر من السعة الحقيقية وأحياناً يصل 500).
وذكر: لذلك تتكرر مشاكل الصرف الصحي نتيجة قلة الحمامات، والسجن غير مجهز بأي من وسائل الترفيه أو سبل الراحة في حين نجد سجن الرجال مجهزاً وأفضل بكثير من سجن النساء، وأردف: سجن النساء يحتاج تأهيلاً حتى يلبي حقوق الإنسان.