الشهيد (دينق).. من يعيد نصف الوطن المفقود؟
الخرطوم: آيات مبارك
(دينق) الذي لم يخرج لمنصب إنما خرج باحثاً عن حرية وعيش كريم وسودان جديد، توفي اغتيالاً في موكب 6 يونيو في محطة سراج بالفتيحاب وأصيب فيه بحوالي (22) من شظايا متناثر الرصاص وكان سبب وفاته إصابة في الصدر والبطن ليحمل الشهيد (دينق) الرقم (100) من ضمن شباب غض يؤمنون بالثورة ارتقوا شهداء بالرصاص الغادر وهم يحلمون بالدولة المدنية.
ولم يكن دينق، أول روح تقدمها دولة جنوب السودان للثورة السودانية ولم تنتهِ حصة الوطن الكبير عند دينق بل كمل بقية الدرس (تروس تنسيقية لجان مقاومة الفتيحاب بتكملة دروس مدرسة ثورة ديسمبر المجيدة) بالاعتناء بدينق وأهله.
الجذور والارتباط
دينق قرنق جون كوات، الذي توفي وعمره (23) عاماً والذي يعمل فني (ساوند) تعود جذوره إلى منطقة أويل بولاية بحر الغزال كان ميلاده بمربع (1) في الفتيحاب وأعلن إسلامه منذ الثامنة من عمره ليتحول اسمه إلى عبد الله ويصبح (حمامة مسجد) تعمل ليل نهار لخدمة ضيوف دار العبادة، خصوصاً في شهر رمضان فكان دائم الاعتكاف، هكذا تحكي اخته ما رجريت وهي تصف يومه الأخير في حياته: فقالت منحني هاتفه الخاص قائلاً ده هدية لي تيتا، وأشار إلى بنتي.. وبعدها بيومين أتاني في مكان العمل وأعطاني مبلغاً يبدو أنها مصاريف اليوم الثاني .. ذلك اليوم الذي توفي فيه وأيقظني من النوم قائلاً: هيي أنا ماشي كان ذلك حوالي الساعة الثامنة صباحاً وتلقيت خبر أصابته مساء عندما أتصلت بي إحدى قريباتي التي أكدت لي أنه شوهد على موقع (فيس بوك)، فوراً اتصلت بهاتفه وأجابني أحد الشباب الذي قال لي: دينق أعطاني هذا التلفون ووصف لي مكان عملك وحالياً هو موجود في مستشفى وعد، ويبدو أنه وقتها قد فارق الحياة وهو في طريقه إلى المستشفى.
مارجريت قرنق، التي تعمل في مهنة بيع الشاي تحدثت لـ (مدنية نيوز) وفي قلبها ألف غبن وحزن: (حتى الآن لا يعلم والداي خبر وفاته فقد أنقطعت أخبارهم منذ فترة طويلة سوى من بعض الأخبار المتقطعة من القادمين من دولة الجنوب. وتعود بذاكرتها إلى الوراء قليلاً كان أبي يعمل (فرّاناً) في هذا الحي ومنحه أبونا عدلان غرفة فأحضر أمي من الجنوب وتنقلنا في عدة منازل إلى أن استقر بنا المقام في هذا المنزل وآثروا هم الذهاب إلى أويل عقب الانفصال.
رد الجميل
وعن تفاصيل ما بعد العزاء أكملت: لقد ساندني الجيران ولجان المقاومة لم يفارقوا (الفُراش) ومنذ صبيحة يوم الوفاة ذبحوا الذبائح وتقبلوا العزاء كأنهم أشقاؤه مع يقيني التام بأنها معرفة مواكب أو كما يقولوا (جمعنا الشارع). وتضيف مارجريت، بدأوا في أعمال الصيانة فقد كانت (البرندة) آيلة للسقوط وحائط الشارع عبارة عن أقمشة تسترني وابنتي من أعين المارة وفي فترة الخريف لا نستطيع النوم خشية من سقوط هذه الغرف المتصدعة.
مبادرة أبناء الفتيحاب
وقال الرضي حمدان، من لجان مقاومة الفتيحاب لـ (مدنية نيوز) عن أعمال الصيانة حالياً تم اكتمال الحائط الخارجي وبدأنا في صيانة الغرفة الداخلية . ولازلنا في حوجة لأن الغرفة الداخلية كانت تستخدم للاستحمام والمطبخ لذلك نحتاج إلى سيخ، حديد، طوب، حصير وقلاب 4 متر رقيطة.
اخوان في وطن
يحكي صديقه والأب الروحي بالنسبة له عثمان حامد الشهير بـ(عكاشة) الذي تبرع لهم بقطعة أرض 300 متر حكى لـ( مدنية نيوز) أمس الأول عن لحظاته الأخيرة وقال: دينق كان معي قبل وفاته بدقائق وطالبته بالعودة لكنه أصر على الاستمرار مبرراً بأن هناك بعض اخوانه لايزالون بالموكب وعقب ذهابي مباشرة أتاني اتصال بإصابته.
ويضيف قائلاً: واجهتنا عراقيل في معاينة واستلام الجثمان، يجب أن يكون عن طريق السفارة مستنكرين أننا أهله فأجبتهم بكل ثقة أنا أبوه.. و اسمه رباعياً وطلب مني أفراد الأمن إثبات صلة القرابة ووقتها كنت في قمة انهياري لكن شرحت لهم ما يربطنا من تفاصيل منذ تبنيه طفلاً وإنني شهدت إسلامه وختانه في الثامنة من عمره وفعلاً تأكدوا من ذلك من خلال فحص الجثة. وتفاجأ وكيل النيابة باختلاف الجميع على أن الكل يريد استلام الجثمان وإقامة مراسم العزاء في منزله، حينها وافق على تسليمنا الجثمان.
وأضاف (عثمان) أن دينق وقبل وفاته بـثلاثة أيام أصيب بمتناثر الرصاص في بطنه وقد قررت له عملية كان سيتم إجراؤها، وعن ثوريته يقول عثمان إنه كان يخرج منذ العام 2019م ويحمل (الساوند) من المحل يومياً إلى القيادة العامة، ولم يتغيب عن موكب واعتاد تقدم الصفوف وفي أحايين كثيرة استخدم عليه سلطتي وأطالبه بالعودة قبل نهاية الموكب حتى لا يتم الاستفراد به .. لكن يبدو أنه ينظر لتضحيته شهادته كأمر واقع.
حلم عودة الجنوب؟
وتابع عثمان: في ٢٠١٩م كان دينق كثيراً ما يسألني أذا البشير سقط.. الجنوب حيرجع تاني؟، ويبدو أن الأمل لم يفارقه أبداً وكان كثيراً ما يدعو الشباب للمواكب بجملته المعهودة (أدوا الوطن حقه) وعندما يعاكسه الشباب بأنه سيتم دفنه في الجنوب عن طريق السفارة يرد بجملة واحدة (قدااام بس .. قدام) ولكن هذا الأمر كان يؤرقه ويبدو أن شريط وفاته كان يمر أمامه وفعلاً كلها تطابقت كما توقعها، وأردف: كثيراً ما كان يسألني (يازول إنت بعدين بتجازف لي موضوع السفارة ده؟؟ يا عكاشة بعدين بتجيب لي حقي؟) فكنت أطمئنه.
رحلة العودة
وعن علاقته به يقول عثمان: دينق يعمل معي منذ العام 2006م وقتها كان يبلغ من العمر (8) أعوام فقمت بتبنيه، وفي العام 2011م وعقب انفصال الجنوب آثر والده العودة إلى الجذور، ولم يكن أمام دينق سوى رفقة والده، لتصبح روحه تنبض بين وطنين ولكن يبدو أن روحه كانت تحلق هناك عند ديم الفتيحاب فلم يطلب له المقام في دولة جنوب السودان فحاول العودة في ظروف بالغة التعقيد.
يكمل (عكاشة) وهو يصف المعاناة التي واجهت دينق عند إصراره على العودة على متن قطار الشمال بأنه التقى باحد أبناء القضارف من المعروفين وشرح له ظروفه الأسرية فطمأنه وعالج له طريقة العودة بأن أتفق مع سائق القطار، وعند التفتيش أجابه بأن دينق هو أحد عمال القطار، وزاد عثمان (عكاشة): قضى دينق يومين بلا طعام في رحلته هذي وفي 8 أغسطس من العام 2010م أتاني وكان في حالة يرثى لها وهو مصاب بملاريا خبيثة، ووجد اخوانه قد تركوا المنزل لعدم وجود أوراق تثبت وجودهم إلى أن عاد وجمعهم من جديد ليسكنوا في هذا المنزل الذي سمحت لهم صاحبته بالبقاء فيه لمدة (٣) أعوام لحين الانتقال إلى منزلهم الجديد.
وأوضح عثمان، أن دينق لم يضع في حسبانه أنه من دولة أخرى وإنما مربع واحد هو وطنه ومكان ميلاده وأن العدلاناب ديل أهله والحمد لله أن سار في طرقات هذا الحي طفلاً وأحبه أهله رجلاً، وارتقت روحه وتم دفنه بيننا في مقابر مربع (٢) شهيداً.