الجمعة, نوفمبر 22, 2024
مقالات

السودان: قطع الرؤوس.. فقد فارق الحال دفنها في الرمال

بقلم: محمد بدوي

أشكال الانتهاكات التي حملها سجل الحرب التي انطلقت في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ بالسودان، على سبيل الإشارة وليس الحصر حالات الذبح وقطع الرؤوس والتمثيل وحرق الجثث، وتصوير الحالات وبثها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولعل الأمر في سوئه وقبحه وامتهانه لكرامة الانسان، ظل يطرح تساؤلات عن الأسباب وراء هذه الأنماط. حيث برزت بعض الآراء ووصفها بالدخيلة على الحالة السودانية حتي في أوقات النزاعات، هذا ما دفع إليه هذا المقال لمحاولة تقصي الأسباب التي دفعت إلى ذلك، وهل هي جديدة على الواقع السوداني؟

في البدء لابد من الاشارة الي أن الاجابة قد تتطلب مباحث كاملة للتناول لكن سيكتفي المقال بمحاولة الإشارات غير المخلة تاركا الأمر لمزيد من البحث التفصيلي، ففي تقديري أن الأشكال التي حملتها الحرب الراهنة ليست جديدة بل هي استدعاء لسجل ممارسات سابقة في فترات مختلفة، وقبل الخوض لابد من الإشارة إلي أن الصراعات ذات الدوافع السياسية في السودان ظلت تشهد هذه الانتهاكات بينما يمثل غياب الدافع السياسي، غياب لهذه الاشكال في الصراعات ذات الطابع القبلي والمرتبطة بملكية الارض أو الموارد، بما يجعل ارتباط هذه الاشكال بالصراعات السياسية دون سواها.

بالنظر الي قطع الرؤوس فالخلفية التاريخية لفترة المهدية، حملت رأس غردون باشا الحاكم العسكري البريطاني، في معركة تحرير الخرطوم، عقب انتصار الانصار، في تطورات لاحقة فقد شهدت فترة حكم الخليفة عبدالله التعايشي الحبس في شكل يجعل من المحبوس في هيئة لا يستطيع معها الجلوس، او الوقوف، تطورت الحالة الى الحريق الذي تم لإسماعيل باشا من قبل المك نمر بشندي انتقاماً من إهانة وجهها له ، وتوالى سجل الممارسات إلى حادثة قطار الضعين ١٩٨٦، وحرق مجموعة من الدينكا في محطة الضعين من قبل مجموعة من الزريقات، وجاء هذا عقب ثلاث سنوات من بدء تدشين الحركة الشعبية لتحرير السودان لنشاطها، وعامين عقب بدء تأسيس المليشيات الرديفة والتي عرفت بالمراحيل ١ و٢.
في حرب دارفور شهدت مناطق جبل مرة رمي الرجال أحياء في المطامير المشتعلة، و دفن بعض الرجال في بعض المناطق احياء، والقصف الجوي بالبراميل الحارقة الذي إمتد لسنوات في جبال النوبة والنيل الازرق والذي حمل الموت في معادلة ( الحرق وقطع الأوصال) نتاج القنابل المصنوعة من المواد المتفجرة الحارقة مع قطع الحديد ،بل حمل السجل في ٢٠٢٣ قبل بدء الحرب بوقت قصير حادثة رجم شخصين من الرعاة في منطقة تندلتي، بغرب دارفور من قبل السكان المحليين على خلفية اتهام بحادثة جنائية، لم يتم التحقق منها بشكل رسمي، في تنفيذ لعقوبة رجم غير قانونية، آخر الاحداث هي التمثيل بجثة الوالي السابق لغرب دارفور خميس ابكر عقب مقتله في يونيو ٢٠٢٣ .

اما سجل التعذيب الممارس من قبل الدولة فقد شمل التعذيب، بغرس المسامير في الرؤوس في حالة الدكتور على فضل، والدفن في حفر تحت الأرض مع ابقاء الراس للإجبار على الاعتراف، اضف الي ذلك الاعدامات السياسية في التهم المرتبطة بالانقلابات العسكرية والجرائم الاقتصادية “التعامل في النقد الاجنبي” حالة مجدي محجوب، والدفن في مناطق مجهولة لذوي الضحايا في حالتي زعيم الجمهوريين محمود محمد طه في 1985وضباط حركة ٢٨ رمضان 1991 الاغتصاب وغيرها من الاشكال الأخرى، بل إن كافة اشكال الانتهاكات التي ظهرت في الراهن يمكن الرجوع الي بداية سجلها المتطابق منذ ١٩٨٤ والذي كان موجها إلى المجموعات التي تقطن في اقليم جنوب السودان على التماس مع الاقليم الشمالي الذبح وقطع الاوصال هو ما هدد به المدير السابق لجهاز الأمن والمخابرات الفريق صلاح قوش في العام ٢٠٠٨ للمتهمين بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية ،اضافة الي ظهورها في الممارسة المرتبطة بالتعذيب من قبل أجهزة الامن و انفاذ القانون في مواجهة المعارضين السياسيين او النشطاء المدنيين.

من جانب اخر فهنالك سياسات الدولة التي ارتبطت بالصراعات السياسية مثل اعلان الجمهورية الاسلامية في ١٩٨٣ وتطبيق العقوبات الحدية، بدوافع سياسية مثل القطع في حالة السرقة كحالة لإثبات تطبيق الحدود، وتدين هوية الدولة وعسكرة المجتمعات في سلك المليشيات بدء من ،١٩٨٤، ثم التكوينات العشائرية المسلحة للكسب السياسي من قبل السلطات الحاكمة كالتجمع العربي في دارفور ١٩٨٦، غياب التنمية والعدالة الاجتماعية، وغياب دور الدولة في الخدمات، اضافة الي سجل العنف المخطط والواسع خلال فترة حكم الاسلاميين السودانيين ١٩٨٩ الي ٢٠١٩، جميعها رسخت في فترات مختلفة، قادت الي تراكم سجل العنف في الممارسة وعلى مستوى الاذهان، منهج الحلول التي ظلت تجنح الي التسويات العرفية الي جانب الفلسفة التي رسخها غياب دور المؤسسات العقابية او السجون والاصلاحيات في الاصلاح، وركونها إلى فكرة العقوبة التي تأثرت باتساع نطاق العقوبات الجسدية والسالبة الحرية ،ولا سيما في التعديلات التي حملتها قوانيين العام ١٩٩١، والحزم السياسية التي اطلقت تحت اسم قوانيين النظام العام والتي ركنت الي ترسيخ عقوبة الجلد بشكل واسع، كل هذا مع ترسانات الحصانات من المحاسبة التي شكلت جداراً مانعاً لسبل الإنصاف هذا مع تراكم السجل الوطني للانتهاكات والناتج عن اتساع الصراعات السياسية، وتعددها ومواجهتها في كثير احيان بعقوبات الاعدام ذات الدوافع السياسية، التي تأتي كمحصلة لتطبيق غير صحيح للقانون أو لمحاكمات غير عادلة ودستورية احياناً، لابد من الاشارة الى ان فشل المؤسسات العقابية في الاصلاح برز في مشاركة بعض السجناء الفارين من السجون في الحرب إلي جانب الاطراف و المشاركة بذات القدر في سلسلة الانتهاكات التي تحدث، اضف إلى ذلك اثر خطاب الكراهية والتمييز في تحفيز والتعبئة للانتهاكات ونجاحه في المشهد مرتبطا بطبيعة اطراف الحرب ودوافع الحرب في سياق صراع السلطة والموارد وقطع الطريق على التحول المدني الديمقراطي، جميع هذه الاسباب ظلت ترسخ إلى أن الانسان او المواطن السوداني في سياق نظر السلطات الحاكمة لم يكن محوراً للاهتمام والحماية والمعاملة الكريمة كما هو وضعه في سياق المواطنة المنصوص عليها دستوريا.

الخلاصة : ما يحدث اليوم هو نتاج لسجل الانتهاكات وغياب الإنصاف وعسكرة المجتمعات، ومواجهة الصراعات السياسية بالسلاح بدلاً من الحلول السلمية والتنمية، وارتقاء الهوس العقائدي إلى مدى جعل من الموت يستهدف الملايين من فئة الشباب في حروب سياسية في دولة نسبة الشباب فيها ٦٠.٤٪ ظلوا ضحايا على الدوام للقتال السياسي سواء عبر التعبئة و استغلال العاطفة او التجنيد الإجباري والقتال المرفوض ضميرياً.

فشل إدارة الدولة ليست في التنمية الغائبة، وغير المتوازنة او الفساد، لكن في تعميد رأس المال البشري بالاقتراب من الموت السياسي سَنْبلة ولا زال من يَذَبح ويُذَّبح من فئة الشباب، والمفارقة في أن بعض من مناصري استمرار الحرب عبروا الشباب فئة، والحرب مكانا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *