الخميس, أكتوبر 17, 2024
مقالات

آخِرُ النَّواقيس.. مرفوعةٌ إلى رُوحِ أُستاذي محجوب محمَّد صالح

نص شعري للشاعر الياس فتح الرحمن، عن رحيل الاستاذ محجوب محمد صالح.

(1)
جاءني مَن تمنَّيتُ طَلَّتَهُ في الحقيقةِ،
لكنَّهُ اخْتارَ طَلَّتَهُ في المَنام!
جاءني، وعُمامتُهُ غَيمةٌ،
قد ألِفْنا وَداعتَها..
تستديرُ إذا ما تجمَّعَ في بابِها المُدرِكُونَ،
تَشُدُّ طوابِقَها خمسةً..
بعضُها يَتعلَّقُ في بعضِها
ثُمَّ تمشي على عَجَلٍ،
وتَرُدُّ على مَن يُحيُّونها في الطَّريقِ السَّلام.
……………….

كان شيخي، على غيرِ هَدْي عُمامتِهُ،
يَسيرُ على مَهْلِهِ، وعَصاه..
تُقلِّدُ إيقاعَ خُطْوتِهِ،
وتُعلِّمُ هَيكَلَها المعدنيَّ التَّريُّثَ،
وقتَ الدُّخُولِ، ووقتَ الجُّلُوسِ، ووقتَ التُّحرُّكِ..
ثُمَّ إذا ما تأخَّرَ مَوعِدُ عَودتِهم،
واستحالَ الخِتام.
………………….
كان شيخي يُثابِرُ، يَرسُمُ خِطَّتَهُ
لاجتماعِ الخُصُومِ،
يُزوِّدُهم تارَّةً بالدُّرُوسِ القديمةِ،
أو ما يَطُوفُ بيَابِسِهم،
من نعيمِ حدائقهِ حين يُفْصِحُ،
أو حين يَنْصَحُ،
أو حين يَشْرَحُ،
أو حين يَصْفَحُ،
أو حين يرنو
إلى أحدِ الخارجينَ عنِ المَتْنِ،
يَتركُهُ هائماً،
يتهجَّى حُرُوفَ غَشاوتِهِ
نادماً، في دَخيلتِهِ،
ومُسْتحِيَاً ومُلام.
……………………

كان شيخي
يَضيقُ بمَن يبتغونَ اصطيادَ السَّوانحِ
من حَبَّةٍ في الهوامشِ أو في الرَّمالِ العَقيمةِ،
يَبنُونَ قُبَّتَهُم،
فيَضرِبُ شيخيَ كَفَّاً بكَفٍّ،
ويصمُتُ بِضعَ ثوانٍ،
ويَهدَأُ،
يُلقِمُ مَن فَجَروا في الخُصُومةِ أحجارَهُ،
ثُمَّ يُطعِمُ جائعَهم طَبَقاً ساخِناً
من رغيفِ الكلام.

كان يرسُمُ خِطَّتَهُ،
يتأمَّلُ عائدَها في مُخيِّلةِ السَّامعينَ
المُسِيئينَ للظَّنِّ،
أو في مُخيِّلةِ السَّامعينَ الكِرام..
فالطَّريقُ إلى مَعقِلِ النُّخَبِ البَدَويَّةِ
مُحتشِدٌ بالخِلافِ المُسِنِّ،
كأنَّ الخِلافَ وَباءٌ توارثَهُ اللَّاحقونَ،
يُطِلُّ بلا مَوعِدٍ، يَترعرَعُ، ينمو،
ويبني خُيُوطَ عناكبِهِ في الجُيُوبِ الخَفيَّةِ،
أو يستعينُ بمخزونهِ في السَّنام.

(2)
جاءني مَن تمنيَّتُ طَلَّتَهُ في الحقيقةِ،
لكنَّهُ اخْتار طَلَّتَهُ في المَنام!
جاءني، وأنا خَيمَتي اهترأتْ،
لكنَّها في الأساريرِ باقيةٌ
فرَّ مَن خابَ في طيِّها،
باعَ للحالمينَ،
وللطَّيبِّينَ،
وللغافلينَ،
وللإمَّعاتِ التُّرام!
جاءني، والأحبَّاءُ والأصدقاءُ وأهلي،
تدلَّتْ حقائبُهم بين شمسٍ تَغيبُ
تَضِنُّ بأنوارِها،
وجغرافيا، لا تُراوِدُ أشواقَهُم،
أو تُهدهِدُ أوجاعَهُم، مَرَّةً في المواسمِ،
أو بُرْهةً، كلَّ عامٍ وعام.
………………..

جاءني مَن تمنَّيتُ طَلَّتَهُ في الحقيقةِ،
لكنَّهُ اخْتار طَلَّتَهُ في المَنام!
كان بيني وبين سَجايا أُبُوَّتِهِ
شَغَفٌ وحنينٌ،
لمجدٍ بناهُ الأوائلُ، لكنْ تَبعثرَ،
بل ضاعَ بين طُبُولِ القبائلِ،
غابت شَرارتُهُ، وأَوَى للأراشيفِ،
يَغمُرُنا بنسائمِهِ حين يزهو،
يُطِلُّ بألوانِهِ الزُّرْقِ،
والصُّفْرِ والخُضْرِ،
يُفرِدُهُ الحاكمونَ،
يُرفرِفُ يوماً، ويومينِ،
ثُمَّ يُعيدونَهُ للدَّواليبِ
كي يتَّقي شمسَ سَقفِ البِنايةِ،
يَعقِلُها
يَتوكَّلُ، يَحضُنُ ألوانَهُ،
ويُهمهِمُ في سِرِّهِ دامعاً؛ وينام.
……………….

كان أبي حين يتلو تعاليمَ نارِ الكتابةِ،
يعلو بنَبرتِهِ ثُمَّ يُمطِرُنا بصَرامتِهِ،
فالضَّحالةُ إِنْ حضَرتْ
لا يُعذَّرُ صاحبُها، فهْي مَفسَدةٌ وأذًى،
لا يُبدِّدُ شَهوتَها جَلَدٌ أو مُصانَعةٌ، أو فِطام.
والضَّحالةُ أُمُّ الكبائرِ، إنْ وقفَتْ
وَحدَها تترافَعُ، تَنشُدُ ضالَّتَها في البدايةِ،
بين جَهابِذةِ العارفينَ،
وبين ضجيجِ المقاعِدِ، حيثُ الأبالِسةُ الضَّالعون،
وحيث فُضُولُ العَوَام..
حينها يَتقلَّصُ مَتنُ الخُلاصةِ،
يَضمُرُ،
ثُمَّ رويداً رويداً يَغيبُ،
وتبدو السُّطُورُ على غيرِ هيْأتِها
في الخِتام.
والضَّحالةُ جُرْمٌ صريحٌ، يُهدِّدُ أعمارَنا،
والضَّحالةُ في الكُتُبِ العالياتِ
ضُلُوعٌ بِلا وازِعٍ في الحرام.

(3)
جاءني مَن تمنَّيتُ طَلَّتَهُ في الحقيقة،
لكنَّهُ اخْتار طَلَّتَهُ في المَنام!
جاءني قلِقاً؛ هَلِعاً،
دامِعاً؛ واهِناً،
واهِباً حَيْرَتي سِفْرَ أيُّوبَ،
نقَّحَهُ وأضافَ لبابِ التَّجلُّدِ مَلزَمةً
مِن فصيحِ تَجارِبهِ المُلهِماتِ،
في العالمِينَ
عليه الرِّضا، وعليه السَّلام!
………………..

جاءني،
قال لي:
ما لِهذي الشَّوارعِ مزروعةً بالبنادقِ؟!
والدُّورُ فارغةٌ من أُناسٍ بَنَوْها،
بشَقِّ سواعدِهم،
وفي ظلِّها قد تواصَوْا بصَبرٍ وَلُودٍ؟!
وأكتافُهُم تُوِّجَتْ، يومَ عدْلٍ،
وهاماتُهُم في النَّوازلِ، حينئذٍ
حُمِّلتْ بالمَهام.
………………….

ودارَ الزَّمانُ طويلاً،
وودَّعَنا في المحطَّاتِ جيلٌ وأينعَ جيلٌ،
تشرَّبَ حِصَّتَهُ في الحياةِ الجديدةِ،
تَقَّنَها، ثمَّ سَوْدَنَها،
ثمَّ قام.
………………..

وكانوا، جميعاً على العَهدِ،
يستنجدونَ بشُعلتِهمْ وهْي تَدفَعُ أشبالَها
حين تَدْهَمُنا الرِّيحُ، أو حين يَلْدَغُنا لادِغٌ
قد تسرَّبَ من شَهْوةٍ في مَنامِ العساكِرِ،
أو رشْوةٍ في جُيُوب الأكابِرِ،
أو قفزةٍ لا تُكلِّفُ فاعلَها بَعدَ نَشوتِهِ،
غيرَ مُنْيتِهِ في المَفازةِ، أو في الحُلُوكةِ،
مُنتحِراً في الظَّلام.

(4)
جاءني مَن تمنَّيتُ طَلَّتَهُ في الحقيقةِ،
لكنَّهُ اخْتارَ طَلَّتَهُ في المَنام!
قال لي:
لم يكنْ من دُرُوسِ تَنبُّؤِنا بالزَّلازلِ،
أو في مَدارِ قياماتِنا، رَغمَ كَثْرةِ أنواعِها،
ما تبخَّر أو ما تناسلَ منها،
دليلٌ يُحيلُ مصائرَنا كلَّها، بَغتةً، مَغنَماً
ليِّناً في الحُدُودِ مع الجارَةِ البَدَويَّة،
أو لُعبةً في مِزاجِ صباحِ الأميرِ المُفَدَّى،
أو ثورةً،
تتناثرُ أشلاؤُها في ظلامِ الزَّنازينِ،
أو في الخنادِقِ،
أو في المنافي المُهينةِ،
أو في المقابِرِ،
أو في الخِيام!

(5)
كيف أحكي يا أبي..
أضَعُ الإِصبَعَ مَفرُوداً على الهَوْل،
وكم كانَ، وكم ظلَّ،
وكم فاضَ العذاب؟!
كيف أحكي يا أبي؟!
……………….

فجأةً..
قبل أن تزهو كُؤوسُ القهوةِ الأولى بنَكْهتِها،
حطَّ على أكتافِ بابِ البيتِ في الفجرِ
غُراب!
نزلَ الشَّرُ ثقيلاً بعدَها،
فحُشِرْنا في فمِ النَّارِ كأنَّا
مَعشَرُ الكفَّارِ في يومِ الحساب.
وخرَجْنا يا أبي..
بعضُنا لا شيءَ في حَوزتِهِ غيرَ الثِّياب!
خرجَ القومُ فُرادى، وزَرافاتٍ،
شُيُوخاً وصَبايا وشباب.
………………..

كيف أحكي يا أبي؟!
يَسألُ الأطفالُ، والنِّسوةُ، والمارَّةُ،
والشَّجرُ المرعوبُ عن وِجهتِنا،
وانقضى عامٌ ونَيِّف..
نحنُ لا نَعرِفُ حرْفاً واحداً
يَحمِلُ في طيَّاتهِ شيئاً نُسمِّيهِ الجواب.
بعضُنا دخلَ الظُّلمةَ مِن أوَّلها
حيثُ لا يَظهَرُ في آخِرِها ضَوءٌ
ولا يُفتَحُ باب..
ثُمَّ نمشي دونَ سيقانٍ وأقدامٍ
وتَنعانا على كُرَّاسة الرَّملِ شُمُوسٌ
وأثافٍ
وأحاديثُ رُعاةٍ ظعَنوا
وفَحيحٌ وصفيرٌ وعُواءٌ
وعِظامٌ لدَوَاب.
ثُمَّ نمشي ثمَّ نمشي..
يَلِدُ الدَّربُ سراباً
في سرابٍ في سراب.
يَطأُ المشتاقُ للأرضِ وللبيتِ وللأحبابِ
جَمرتَهُ،
وتنهالُ على حَمَّالة الرُّوحِ حِرابٌ
في حِرابٍ في حراب.
تيْبسُ السَّاعةُ في حِيطانِ هذينِ الطَّليقَينِ الشَّريكَينِ
الشَّبيهَينِ الصَّديقَينِ العَدوَّينِ
فتنأى عن عقاربِها،
وتندَكُّ على أحذيةِ العُمْيِ وصُنَّاعِ الخراب.
يَزحَفُ الوقتُ ونتلو سِفرَ أيُّوبَ صباحاً ومساءً،
وذَهاباً وإياب..
ثمَّ مع الرَّكعةِ والسَّجدةِ
يُرفَعُ للرَّبِ من النَّاسِ على سجَّادة البثِّ
خِطابٌ وخِطابٌ وخِطاب.

(6)
آهِ يا أبتي،
هرِمْنا
مثلَما قال سليلُ الغُبنِ يوماً
وتحدَّى،
وتصدَّى،
واسْتراب.
……………

آهِ يا أبتي..
سئِمْنا، وهرِمْنا،
وشرِبْنا كأسَ أيُّوبَ إلى آخِرهِ،
كيف يا أبتي على أيَّامِ هذَينِ الصَّفيقَينِ
السَّفيهَينِ، البَغيَّينِ، نُزَكِّيهِ الشَّراب!
والدَّمُ المسفوكُ يا أبتي نواقيسٌ
ودَيْنٌ يَدهُنُ الأُفْقَ ويمشي في العَراقيبِ
ويَحتلُّ الرِّقاب!
………………

تَخرُجُ الحُرَّةُ من مَخدَعِها رُعْباً،
وتجري في اتِّجاهِ الموتِ، فالموتُ
على كلِّ السَّراديبِ مُقيم!
يرتدي (كَدمُولَهُ) الملفوفَ كااللَّعنةِ،
حولَ الرَّأسِ، والرَّأسُ خَلاء.
شارعٌ خالٍ من المارَّةِ
تخشاهُ الخفافيشُ، وتأباهُ الدَّواب!
………………..

تقفِزُ الحُرَّةُ، تجري يا أبي
في اتِّجاه الموتِ، يجري دمُها
ثمَّ يَهتزُّ، ويَرتجُّ حَشَاها بِضعَ لحظاتٍ
ولا تَذكُرُ غيرَ الله في شَهقتِها،
وتَرجوهُ تعالى
يَقبِضَ الرُّوحَ، ويُنْجيها مِنَ اللَّحظةِ
فاللَّحظةُ أعتى من لظَى الموتِ،
ومن كلِّ بَلاءٍ ومُصاب.
…………………………….

تقفِزُ الحُرَّةُ، تجري يا أبي
في اتِّجاه الموتِ، يجري دمُها
ثُمَّ يَهتزُّ، ويَرتجُّ حَشَاها بضعَ لحظاتٍ،
ولا تَذكُرُ غيرَ الله في شهقتِها،
وترجوهُ تعالى
يَقبِضَ الرُّوحَ، ويُنْجِيها من اللَّحظةِ،
فاللَّحظةُ أعتى من لظَى الموتِ،
ومن كلِّ بَلاءٍ ومُصاب.
………………..

ثُمَّ ماذا يا أبي؟
ولماذا يكشِفُ الغرباءُ عن سُرَّتِها جَبْراً
ويُمشُونَ على الصَّدرِ، وما تحتَ الثِّياب؟!
ثُمَّ يلهُونَ سعيدِينَ، سُكارى،
لا يُغطُّونَ بقاياها بكَومٍ من تُراب!
……………….

آهِ يا أبتي،
هرِمْنا،
مثلَما قال سليلُ الغُبنِ يوماً وتحدَّى،
وتصدَّى، واسْتراب!
ثمَّ إنَّ المُزنَ هطَّالٌ،
وفي صُرَّتهِ
تِسْعُ بِشاراتٍ عُجَاب!
فإذا بالصَّوتِ دوَّى،
شبَّتِ الأصواتُ فأساً طُولها الشَّعبُ،
وعَرْضٌ لا يُجاريهِ حِساب..
وترى الحائطَ
ذرَّاتٍ تهاوتْ
واسْتدارتْ
في الهواء الحُرِّ مرَّاتٍ ومرَّاتٍ وطارتْ
ثُمَّ خارتْ، واستقرَّتْ، مثلَما كانت
قُبَيلَ اللَّتِّ والعَجْنِ،
تُراباً في ترابٍ، في تُراب.
………………..

يُوضَعُ الميزانُ، في عُرْفي، على نصفينِ:
قَصَاصٌ نِصفُه الأوِّلُ، والثَّاني قَصَاصٌ
نِصفُهُ الآخَرُ
والوقتُ عِقابٌ، في عِقابٍ، في عِقاب.

يُغلَقُ البابُ، ويَصطَفُّ جُناةُ الأمسِ واليومِ،
ومَن بايعَهُم،
حيثُ لا يفلِتُ مَن نكَّلَ بالجِلْدِ وباللَّحمِ
وبالعَظمِ وبالرُّوحِ، وبالأرضِ الَّتي فُضَّتْ على الأرضِ،
وها باتتْ يباباً في يبابٍ،
في يباب.
…………..

يَسقُطُ العَفْوُ،
ومَن رَوَّجَ للعَفْوِ،
ولو جاء براياتٍ تَدِرُّ العَطفَ،
مشفُوعاً ومسنُوداً بآياتِ الكتاب!
نُسمِّيها بلا نسبٍ
أو لا نُسمِّيها
فسِيرتُها تُعلَّقُ في حِبالٍ
يا أبي
ومَن يُعلِّقْها، يُكافَأْ من عُتاةِ القابضينَ على جهنَّمِهمْ
ويَهنَأْ بالثَّواب.
نُسمِّيها أو لا نُسمِّيها
وليس لها في الخَلقِ
يا أبتي
سوى المنسوبِ ماضيها إلى جِنِّيةٍ تعلو بنَشوتِها
إذا ما أدمنتْ في الصَّيفِ
لَحسَّ التَّمرِ،
تَرشُّ نَواتَه بلُعابِها الغَجريِّ
وتَعصِرُهُ بفكَّيْها
وتسترخي
وتَتركُ ما تبقَّى من مَسرَّتها
لإِسفنجٍ يُعتِّقُهُ على مَهْلٍ
فتَظمأُ كلَّما شرِبتْ
وتحيا
ثُمَّ لا تحيا
إذا نضَبَ الشَّراب.
نُسمِّيها أو لا نُسمِّيها..
ولا نَذكُرُ أشباهاً لها في الخَلْقِ يا أبتي
سوى ما قد تراهُ العينُ
من شيءٍ صغيرٍ
قد يَبينُ ولا يَبينُ،
وقد يَلُفُّ على ظُهورِ النَّملِ منديلاً
يُجنِّبُهُ السُّؤالَ عن الهُوِيَّةِ
في الذَّهاب وفي الإياب.
………………

نُسمِّيها أو لا نُسمِّيها..
وليس له في الخَلْقِ يا أبتي
سوى ما ظلَّ يُشْبِهُ في الخريف فُقَاعةً في الماءِ،
أو ريشاً تخلَّى في المُنازَلةِ الخفيفةِ
عن رِفاقِ سِلاحِهِ
ومضى يُغازِلُ في الهواءِ بَعُوضةً
تزهو بأسفلِها
فينقلِبُ الهواءُ
ويعدو عكسَ وِجهتِهِ،
فتحتفلُ العناكِبُ،
ثُمَّ تَرقُصُ في الفضاءِ الدَّاكنِ الصَّمغيِّ
أسرابُ السَّراب،

(7)
يا أبي..
يا سيَّدَ الجَلسةِ في اليُسْرِ،
وحين اليُسرِ يَغشانا لِمَاماً،
ثُمَّ في العُسرِ الَّذي يَرمي عصا تَرحَالِهِ
في صَحْنِ بَلدتِنا،
ويلهو في الأَسِرَّةِ والمناضِدِ،
والمَقاعِدِ والمَشاجِبِ،
في ألعابِ طِفلتِنا الوديعةِ،
في حاسُوبِ ربِّ البيتِ،
يمشي في الدَّواليبِ،
وفي الطَّقس المفضَّلِ للكتابةِ والتَّأمُّلِ والقراءةِ،
ثمَّ في لَوحاتِ حائطِنا المُدلَّلِ،
في النَّوافذِ، والسَّتائرِ والشَّراشِفِ والجواربِ والثِّياب!
……………

يا أبي..
يا أيُّها المبعوثُ في هَبَّاتِنا الصُّغرى،
وفي الكُبرى،
وحين الضِّيقُ يَستغوِي
ويعوِي في التَّضاريسِ، ويَشتطُّ،
فتصطَكُّ، وتَستاءُ وِهَادٌ ورِحاب.

ينقضي العامُ ونيِّف..
نحنُ لا نَقرأُ في رُزنامةِ السَّبتِ
الَّذي هاجمنا أيَّ آثامٍ جنَاها دمُنا
غيرَ طَلعتِهِ
وسيماً طازجاً
فاديَاُ أٌمَّتَهُ الثَّكلى
بأغلى ثمنٍ،
عدَّه الله شُرُوعاً
بل حُلُولاً في الصَّواب.

……………..

يا أبى..
يا سيَّدَ الجَلسةِ حين يحتدُّ البدائيُّونَ
تَسمعُهم، يَذوبُ اللَّغوُ
في غُربالِكَ النَّاعمِ،
تَستشهِدُ بالثَّأراتِ، والمِحَنِ الشَّبيهةِ،
ثمَّ تستدعي دُرُوساً في النَّوازلِ،
حين تَضرِبُ كلَّ نافذةٍ وباب!
……………

يا أبي..
يا أوَّلَ الآباءِ، يا قَلماً تشدَّدَ في تمنُّعِهِ،
وأسهبَ في تمعُّنِهِ، ونوَّهَ، ثمَّ فنَّدَ،
ثمَّ جادلَ بالَّتي تَشفي،
وحين تُصافِحُ الفُرَقاءَ أطرى،
واستعادَ بريقَ سَحنتِهِ، وآزَرَ،
واستجاب!
……………

يا أبي..
يا أوَّلَ الآباءِ،
حين تُطِلُّ، تنتظمُ المقاعدُ،
يَصمُتُ الفُصَحاءُ،
يَحضُرُ مَن تعوَّد أن يَغيبَ،
فيَستَوُونَ جميعُهم،
وتَسطَعُ في مِنصَّتِنا القديمةِ والجديدةِ
كلُّ شاردةٍ وواردةٍ،
وندخُلُ في الوَقارِ جميعُنا،
نعلو،
وتَحتشدُ الحَصَافةُ في نُفُوسِ القومِ يا أبتي،
وتَهطِلُ من سَحَابتِكَ الأُبوَّةُ والسَّماحةُ
والصَّلابةُ، والنَّجابةُ..
كلُّها تَصطَفُّ بين يدَيكَ
يا أبتي، إليكَ،
وتنحني لمَقامِكَ السَّامي،
فتَزدهِرُ المناديلُ المُعطَّرةُ النَّدِيَّةُ
حولَ وجهِكَ،
تَرتبِكُ المِنصَّةُ،
والحُضُور يُطالبونَ
بحقِّهمْ في بَوحِكَ العالي،
فتنتفضُ العُمامةُ،
خلفَها الجُلبابُ يَتبعُها فتَنهَضُ عالياً،
لتُؤجِّلَ الفُصْحى وتَرتجِلَ الخِطاب!
……………..

يا أبي..
يا أوَّلَ الآباءِ،
هَبْ لنا عَفْوَك نَرجُوهُ وفيراً!
فعلى يُمْناكَ تنداحُ خَطايانا
ويُسْراكَ جِراحٌ ودُمُوعٌ،
وعِتابٌ في عِتابٍ،
في عِتاب.
………………

يا أبي..
هَبْ لنا عَفْوَكَ
نَرجُوهُ وثيراً!
نحنُ محجوبونَ عن صَحوتِنا قَرْناً،
وما الجَهلُ وما الفِتنةُ والبَغضاءُ والحِقدُ
سوى الطَّامَّةِ، والطَّامَّةُ في الأصلِ
حِجابٌ في حجابٍ،
في حِجاب.
……………..
اِسمُكَ المرسومُ في أضلُعِنا وَرْداً
وقنديلاً، ومَتْناً فارِعَ القامةِ
يرتادُ حنايانا ويسمو
كلَّما أينعَ حَرفٌ في كتاب.
هَبْ لنا عَفْوَكَ إِنْ كنتَ قريباً،
أو إذا كنتَ على البُعدِ، أَغِثْنا وافْتِنا في يُتمِنا العالي،
فقد ضاقتْ على كلِّ خُطُوطِ الطُّولِ والعَرضِ مفازاتٌ،
وصدَّتْنا سُهُولٌ،
وجبالٌ، وهِضاب!

(8)
نَمْ هنيئاً يا أبي،
وافِرَ الحُجَّةِ، مفْرُوداً على
قُوتِ المِنصَّاتِ،
سخِيَّاً مثلَما كنتَ ستبقى
يَرتوي من نَبعِكَ الأنقى
سؤالٌ ظاعنٌ في العُسْرِ
يستدعي جُمُوعَ البالغينَ المجدُ يا أبتي،
يَرتبِكونَ حينئذٍ،
ويَشتطُّونَ وقتئذٍ
فتُسعِفُهمْ، وتُلهِمُهمْ
فتنفتِحُ المصاريعُ،
وتلتئِمُ العناصرُ يا أبي،
لِيقفِزَ من خَبيئَتِهِ الجَّواب.
……………
اِسمُكَ الحاضرُ،
والمرسومُ في أضلُعِنا وَرْداً
وقنديلاً، ومَتْناً فارِعَ القامةِ،
يَرتادُ حنايانا ويسمو،
كلَّما أينعَ حَرفٌ في كتاب.
اسمُكَ المرسُومُ في أضلُعِنا فخراً
بمجدٍ لا يُداريهِ نُعاسٌ أو غياب!
………………….
فارقُدِ الآنَ كما أنتَ جميلاً،
سيَّدَ الحِكْمةِ والفِطْنةِ، مأهُولاً
بصوتِ النَّاسِ والأرضِ وما بينَهُما،
تسعى رؤوفاً، وأَبِيَّاً،
ووفيَّاً
ومُهاب!
——-

الياس فتح الرحمن
ريفى مروى أكتوبر 2024

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *