إضاءات حول التعديلات الدستورية في السودان.. التقييم الدستوري والقانوني
بقلم: محمد عمر شمينا
شهد السودان، منذ توقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس 2019، تطورات دستورية وسياسية متسارعة، اتسمت بتعدد التعديلات على الوثيقة الدستورية، لا سيما التعديلات التي أُقرت عقب 25 أكتوبر 2021، والتي أثارت جدلًا واسعًا حول مدى اتساقها مع المبادئ الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية، وانعكاسها على مبدأ التوازن بين السلطات وتوزيع الصلاحيات وفقًا للأسس التي قامت عليها الوثيقة الدستورية لسنة 2019.
السياق الدستوري والسياسي للتعديلات:
بتاريخ 11 أبريل 2019، ترتب على إنهاء حكم الرئيس السابق وإسقاط الدستور القائم آنذاك فراغ دستوري استدعى التوصل إلى اتفاق سياسي بين القوى المدنية والعسكرية لتنظيم الفترة الانتقالية. وقد أُبرمت الوثيقة الدستورية لسنة 2019 بوصفها المرجعية الدستورية المؤقتة، حيث نصت على إنشاء مؤسسات حكم انتقالي تشمل مجلس السيادة ومجلس الوزراء والمجلس التشريعي الانتقالي (الذي لم يتم تشكيله). وقد جاءت الوثيقة في سياق يهدف إلى ضبط العلاقة بين المكونين العسكري والمدني، استنادًا إلى مبدأ توزيع الصلاحيات بشكل يضمن عدم تركيز السلطة في يد أي طرف منفردًا.
إلا أن تنفيذ الوثيقة الدستورية شهد تحديات متكررة، تفاقمت في أعقاب قرارات 25 أكتوبر 2021 التي أصدرها القائد العام للقوات المسلحة، والتي قضت بحل مجلسي السيادة والوزراء وإعلان حالة الطوارئ. وقد شكلت هذه القرارات خرقًا جوهريًا لنصوص الوثيقة الدستورية، لا سيما في ظل غياب أي سند دستوري يجيز تعطيل المؤسسات الانتقالية بقرار صادر من أحد مكونات السلطة الانتقالية دون اتباع الإجراءات المنصوص عليها. وقد ترتب على هذه القرارات إحداث تغيير جوهري في طبيعة السلطة الانتقالية وآليات عملها، مما أفرز أزمة دستورية استمرت تداعياتها حتى التعديلات الأخيرة.
وفي محاولة لمعالجة هذه الأزمة، تم توقيع اتفاق سياسي في نوفمبر 2021 بين رئيس الوزراء والمكون العسكري، تضمّن إعادة تكليف الحكومة المدنية واستئناف العمل بالوثيقة الدستورية، مع اقتراح إجراء تعديلات عليها. غير أن هذا الاتفاق افتقر إلى التوافق السياسي العريض، كما لم يكن مستندًا إلى عملية دستورية واضحة، فضلًا عن عدم توفر الإرادة السياسية لتنفيذه، مما أدى إلى انهياره واستمرار حالة عدم الاستقرار الدستوري والسياسي.
التقييم الدستوري لمجلس السيادة ومجلس الوزراء المكلفين:
من أبرز الإشكالات القانونية التي تثيرها التعديلات الأخيرة مسألة الوضع الدستوري لمجلس السيادة المكلف ومجلس الوزراء المكلف، خاصة في ظل غياب أي نص في الوثيقة الدستورية يمنح صلاحية تكليف هذه المؤسسات خارج الإطار الدستوري المحدد مسبقًا. فمنذ 25 أكتوبر 2021، تم تشكيل مجلس السيادة بقرار صادر عن المكون العسكري، مما يُثير تساؤلات حول مدى شرعية هذا التشكيل بالنظر إلى أن الوثيقة كانت تنص على تشكيله وفقًا لاتفاق بين المكونين المدني والعسكري. كما أن مجلس الوزراء تم تكليفه دون مسار دستوري واضح، في ظل غياب آلية تشريعية تملك سلطة المصادقة على هذا التكليف أو منحه الشرعية السياسية اللازمة.
علاوة على ذلك، فإن استمرار القائد العام للقوات المسلحة في رئاسة مجلس السيادة يطرح إشكالًا دستوريًا بالنظر إلى أن الوثيقة الدستورية كانت تهدف إلى تحقيق فصل نسبي بين السلطات العسكرية والمدنية، وتقليص دور المكون العسكري في العمل التنفيذي خلال الفترة الانتقالية. وبالتالي، فإن إعادة تشكيل مجلس السيادة بهذه الصيغة يخالف المبادئ الأساسية التي قامت عليها الوثيقة الدستورية، لا سيما مبدأ منع تركيز السلطات في يد جهة واحدة.
التعديلات الدستورية((2025))وإشكالات الشرعية الدستورية:
تُطرح عدة تساؤلات حول مدى مشروعية التعديلات الدستورية الأخيرة، خاصة في ظل غياب المجلس التشريعي الانتقالي، الذي نصت الوثيقة الدستورية على أنه الجهة المختصة بتعديل أحكامها. ووفقًا لمبادئ القانون الدستوري، فإن تعديل أي نص دستوري يستوجب الالتزام بالآليات المنصوص عليها في الوثيقة ذاتها، وإلا عُدّ التعديل مفتقرًا إلى المشروعية الإجرائية. ومع غياب السلطة التشريعية الانتقالية، فإن إقرار التعديلات من خلال اجتماع مشترك لمجلسي السيادة والوزراء يثير تساؤلات حول مدى اتساقه مع أحكام الوثيقة الدستورية الأصلية، ومدى مشروعية السلطات التي استندت إليها هذه الجهات لإجراء التعديل.
إلى جانب ذلك، فإن التعديلات الدستورية لم تقتصر على تغيير بعض النصوص فحسب، بل شملت إعادة هيكلة عدد من المؤسسات الدستورية، مثل مجلس السيادة وصلاحيات رئيسه، مما قد يشكل تجاوزًا للحدود المسموح بها في التعديلات الدستورية المؤقتة، حيث أن أي تعديل يمس طبيعة السلطة الانتقالية وهيكلها الأساسي قد يُعدّ بمثابة تأسيس دستوري جديد يتجاوز مفهوم التعديل الدستوري التقليدي.
أثر التعديلات على مبادئ العدالة الانتقالية:
لم يقتصر الجدل حول التعديلات الدستورية على الجوانب الإجرائية والمؤسسية فحسب، بل امتد ليشمل أثر هذه التعديلات على مسار العدالة الانتقالية، لا سيما فيما يتعلق بالتحقيقات المرتبطة بانتهاكات حقوق الإنسان، وأبرزها التحقيق في جريمة فض الاعتصام. حيث نصت الوثيقة الدستورية في صيغتها الأصلية على تشكيل لجنة وطنية مستقلة للتحقيق في هذه الجريمة، وكان من المفترض أن تواصل اللجنة عملها حتى الوصول إلى نتائج نهائية. غير أن التعديلات الأخيرة تضمنت إلغاء المادة المتعلقة بهذه اللجنة، مما يُثير تساؤلات حول مدى التزام السلطات الحالية بمبدأ عدم الإفلات من العقاب، ومدى توفر الإرادة السياسية لمواصلة التحقيقات المتعلقة بالانتهاكات الجسيمة التي وقعت خلال الفترة الانتقالية.
وهنا يثور تساؤل هل إلغاء المادة 16 يلغي عمل اللجنة.؟
على المستوى الدستوري، يُعد الإلغاء بمثابة إنهاء للأساس القانوني الذي تستند إليه اللجنة في أداء مهامها، مما قد يترتب عليه وقف عملها فعليًا، إلا إذا تم إيجاد سند قانوني بديل يضمن استمرارها.
ومع ذلك، فإن مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وهو من المبادئ الأساسية في القانون الدولي لحقوق الإنسان، يفرض التزامًا على الدولة بمواصلة التحقيقات في الانتهاكات الجسيمة، حتى في حال إلغاء النصوص القانونية التي أسست لها. وبالتالي، فإن التساؤل الأهم هو ما إذا كانت السلطات تملك الإرادة السياسية والرغبة الفعلية لمواصلة التحقيق، أم أن الإلغاء جاء في سياق إنهاء عمل اللجنة فعليًا دون الإعلان عن ذلك بصورة مباشرة.
أما إذا كان الالغاء جاء فى سياق إنهاء عمل اللجنة فعلياً فهناك مترتبات دستورية وقانونية على هذا الالغاء:
أولًا: الأثر الدستوري
1. إفراغ الالتزام الدستوري من مضمونه
* الوثيقة الدستورية نصّت في ديباجتها ومبادئها العامة على تحقيق العدالة والالتزام بمحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات. وبالتالي، فإن إلغاء اللجنة يتعارض مع هذه المبادئ، مما يطرح تساؤلات حول مدى التزام السلطات الحالية بأسس الانتقال الديمقراطي والعدالة.
2. تقويض العدالة الانتقالية
* تشكيل اللجنة كان جزءًا من عملية العدالة الانتقالية، التي تهدف إلى معالجة انتهاكات الماضي ومنع تكرارها. إلغاء اللجنة دون بديل يعكس غياب الإرادة السياسية لتحقيق العدالة، ويؤثر على مشروعية العملية الانتقالية نفسها.
3. خرق مبدأ سيادة حكم القانون
* من الناحية الدستورية، يُعد الإلغاء تراجعًا عن التزامات الدولة بإجراء تحقيق مستقل وشفاف، وهو ما يُضعف سيادة حكم القانون ويعزز فكرة تدخل السلطة التنفيذية في عرقلة المساءلة.
ثانيًا: الأثر القانوني
1. عدم جواز وقف التحقيقات في الجرائم الجسيمة
* وفقًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان، فإن التحقيق في الانتهاكات الجسيمة، مثل الجرائم ضد الإنسانية، لا يسقط بإلغاء نص قانوني. السودان ملزم بموجب اتفاقيات دولية بمواصلة التحقيقات، مما يعني أن الضحايا وأسرهم يمكنهم اللجوء إلى الآليات الدولية لمتابعة القضية.
2. إضعاف مشروعية القرارات السابقة للجنة
* إلغاء اللجنة دون إصدار تقريرها النهائي يُثير تساؤلات حول مصير الأدلة التي جمعتها، وهل سيتم الاعتراف بها أم سيتم تجاهلها؟ هذا يفتح الباب أمام طعون قانونية حول مشروعية إنهاء عمل اللجنة دون إكمال تحقيقاتها.
3. إمكانية الطعن أمام القضاء
* يمكن للضحايا أو ذويهم الطعن في قرار الإلغاء أمام المحكمة الدستورية (حال تشكيلها)، باعتباره يتعارض مع الحقوق الأساسية المكفولة في الوثيقة الدستورية، بما في ذلك الحق في العدالة والمساءلة.
ان إلغاء اللجنة ليس مجرد إجراء قانوني، بل يعكس توجّه السلطة في التعامل مع قضايا العدالة الانتقالية. ومن الناحية الدستورية والقانونية، فإن هذا الإلغاء قد يؤدي إلى طعن في مشروعية التعديلات الدستورية ككل، خاصة إذا اعتُبر محاولة للتغطية على انتهاكات خطيرة تتطلب المحاسبة وفق القانونين الوطني والدولي.
مقترحات لمعالجة التحديات الدستورية والسياسية في السودان.
نظرًا للتعديلات الدستورية الأخيرة وما أفرزته من إشكالات قانونية وسياسية، يمكن تقديم مجموعة من المقترحات التي تهدف إلى تعزيز الاستقرار، وضمان احترام الدستور، وتحقيق العدالة الانتقالية، بما في ذلك التحقيق في الأحداث المفصلية مثل فض الاعتصام.
أولًا: مقترحات دستورية وقانونية
1. مراجعة التعديلات الدستورية الأخيرة
* تشكيل لجنة قانونية مستقلة لمراجعة التعديلات الدستورية ومدى توافقها مع مبادئ الحكم الدستوري، وضمان عدم الإخلال بالتوازن بين السلطات وتوزيع الصلاحيات.
2. إعادة بناء الشرعية الدستورية
* النظر في آلية توافقية لإعادة الشرعية الدستورية من خلال مشاورات وطنية تفضي إلى مسار انتقالي جديد يراعي أسس الحكم الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة.
3. إعادة تشكيل المؤسسات الانتقالية على أسس توافقية
* العمل على إعادة هيكلة مجلس السيادة ومجلس الوزراء بطريقة تراعي التمثيل العادل، وتستند إلى الشرعية السياسية والدستورية لضمان عدم انفراد جهة معينة بالسلطة.
ثانيًا: مقترحات تتعلق بالعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان
4. إعادة الالتزام بمبدأ العدالة الانتقالية
* وضع إطار قانوني واضح للعدالة الانتقالية يشمل التحقيق في الانتهاكات السابقة، وجبر الضرر للضحايا، وإصلاح المؤسسات القضائية لضمان عدم تكرار الانتهاكات.
5. استئناف التحقيق في الجرائم والانتهاكات السابقة
* معالجة مسألة التحقيق في فض الاعتصام عبر أحد الخيارات التالية:
* إعادة اللجنة الوطنية للتحقيق وفق أسس قانونية جديدة تعزز استقلاليتها.
* إحالة التحقيق إلى هيئة قضائية مستقلة لضمان استمراره بعيدًا عن التأثيرات السياسية.
* تفعيل المساءلة الدولية في حال تعذر تحقيق العدالة داخليًا، من خلال التعاون مع آليات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية.
6. حماية الأدلة والشهود في الجرائم المرتبطة بالانتهاكات
* سن قوانين لحماية الشهود وضمان حفظ الأدلة المتعلقة بجرائم فض الاعتصام وانتهاكات حقوق الإنسان، لمنع الإفلات من العقاب.
ثالثًا: مقترحات سياسية وإصلاحية
7. إطلاق حوار سياسي شامل يضم جميع الأطراف
* تنظيم حوار وطني شامل يضم القوى السياسية والمدنية والعسكرية لتحديد خارطة طريق واضحة للانتقال الديمقراطي، وتجاوز حالة الانسداد السياسي.
8. ضمان استقلال القضاء وسيادة حكم القانون
* تعزيز استقلال القضاء وإعادة هيكلة النيابة العامة لضمان عدم استخدامها كأداة سياسية، وإصدار قوانين تُحظر التدخل في عمل المؤسسات العدلية.
9. إصلاح المؤسسة العسكرية والأمنية
* وضع برنامج واضح لإصلاح الأجهزة الأمنية والعسكرية بما يضمن التزامها بالدستور واحترامها للسلطة المدنية، ومنع تكرار التدخل في العملية السياسية.
رابعًا: مقترحات اقتصادية وتنموية
10. تحقيق الاستقرار الاقتصادي كأولوية للانتقال السياسي
* وضع سياسات اقتصادية تعزز الاستقرار، وتضمن العدالة في توزيع الموارد، وتعيد بناء ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة.
11. تعزيز الحكم المحلي والتنمية المتوازنة
* تبني سياسات تدعم اللامركزية، وتضمن التنمية العادلة في مختلف الأقاليم، بما يسهم في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي.
ختاماً:
إن معالجة التحديات الدستورية والسياسية الراهنة تتطلب نهجًا شاملًا يجمع بين الإصلاح الدستوري، وضمان العدالة الانتقالية، وتحقيق التوافق السياسي، إضافة إلى تعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي. نجاح أي مسار انتقالي يعتمد على الإرادة السياسية، والالتزام بمبادئ الديمقراطية، وتحقيق العدالة كأساس لبناء مستقبل مستقر ومستدام.