وسط زخات الرصاص.. أصوات السلام تتقدم الصفوف وتتحدى البندقية (1-2)
تقرير: حسين سعد
وسط ركام القرى والمدن المدمرة، والبيوت التي هجرها أهلها جراء الحرب المدمرة التي تعصف بالسودان منذ إندلاعها في 15 أبريل 2023 بين القوات المسلحة، وقوات الدعم السريع، وبالرغم من الدمار الواسع الذي طال البشر والحجر، والتدهور المريع في الأوضاع الإنسانية، وسط كل ذلك تعلو أصوات لا تحمل سلاح بل ترفع رايات السلام نساء وشباب وشيوخ وأطفال ومجتمع مدني منهك لكنه لايزال صامد ينادي بالسلام، ووقف ألة الحرب التي مزقت البلاد ، وإنقاذ ما تبقى من الوطن ، أصوات خرجت من رحم الألم والمعاناة، وتنوعت بين مبادرات شعبية، ونداءات فنية، وجهود نسوية، وحملات شبابية وإعلامية، تسعى جميعها إلى إسكات صوت البندقية وإعلاء صوت الإنسانية، هذه الأصوات ليست مسلحة بالبندقية ولا مدججة بالقنابل، بل محمولة بالأمل، ومرسلة من الحناجر والقلوب والضمائر، إنها أصوات السلام، وبالرغم من الخراب والمصاعب الا إن السودانيين والسودانيات في المجتمع المدني ، والإعلاميين والفانيين المبدعيين عادوا للواجهة برسائلهم المؤثرة، عبر الأغاني، المسرحيات، والرسومات، التي ترفض الحرب وتبث الأمل، وقدمت فرق فنية أعمالاً جديدة تندد بالحرب وتعيد إحياء روح التضامن السوداني، ورسم التشكيليين جداريات علي أنقاض المباني المدمرة ، وتحولت بعض منصات التواصل الاجتماعي الي منابر وأصوات للسلام، ونشر البعض محتوى يدعو لحقن الدماء، ومواجهة خطاب الكراهية، والعنصرية، وتوثيق جرائم الحرب، إلى جانب حملات تطالب بوقف الحرب وإغاثة المدنيين وكتب أخرين عبارات مثل (الوطن يسع الجميع) و(لا للحرب نعم للسلام).
وجع الناس:
ورغم الألم العميق الذي يلف البلاد، إلا أن هناك ومضات أمل تنبض في مبادرات فردية وجماعية، يقودها شباب ونساء يؤمنون بأن الوطن يستحق فرصة ثانية، في الأحياء المنسية، وفي القري والأرياف وفي مخيمات النزوح، وفي ساحات الجامعات المُغلقة، تتشكل دوائر صغيرة للحوار، تُقام ورش التوعية، وتُبنى جسور من الثقة بين مجتمعات فرقتها الحرب، هذه الجهود ، تمثل اللبنات الأولى في بناء سلام حقيقي، لا يُفرض من فوق، بل يُصنع من القاعدة، من وجع الناس وكرامتهم المهدورة، أما النساء، رغم ما واجهنه من عنفٍ مضاعف، جسديًا ونفسيًا، أصررن على الوجود في مشهد التغيير، ليس كضحايا، بل كقائدات ومبادرات، يقدن مسيرات السلام، يؤسسن مراكز الدعم النفسي والاجتماعي، أما الشباب، فقد اختاروا أن يواجهوا ثقافة الحرب بثقافة الحياة،فنشطوا في التكايا وغرف الطؤاري ، يقدمون الطعام والعلاج ، وينشرون رسائل الأمل عبر منصات التواصل، ويقاومون التهميش بخلق مساحات بديلة للتعبير والمشاركة، إن أصوات السلام هي أصوات ترسم ملامح سودان متعدد بلا حرب ولا كراهية، سودان لا تُقرر مصائره البنادق، بل ينهض على أساس العدالة والمشاركة والاعتراف بالتنوع، إن السودان، هذا الوطن العريق الذي طالما كان منارة للثقافة والصمود، لا يستحق أن يُختزل في خريطة صراعات، ولا أن يُترك وحيدًا يواجه أوجاعه، فلتكن هذه الأصوات — أصوات الشباب والنساء — آخر الأصوات قبل أن يغمر الصمت كل شيء، وليكن السلام ليس مجرد شعار، بل مسارًا حقيقيًا تُعبّده الإرادة الشعبية، وتكتبه التضحيات التي لم تتوقف يومًا، في وطنٍ أنهكته الحروب وشرّدت نيرانه آلاف الأرواح، لا تزال أصوات السلام تُطلق من بين الركام، خافتة لكنها صادقة، تُنادي بوطنٍ يحتضن أبناءه لا يُمزّقهم، في السودان، تتعالى صرخات الأمهات الثكالى، وأنين الأطفال النازحين، وصرخات الشباب الذين حُرموا من الحلم والحياة، وسط هذا الظلام، تبرز مشاركة النساء والشباب والمجتمع المدني كشموع تقاوم الانطفاء، تحمل في يدها غصن الزيتون وفي القلب وطنًا مصلوبًا على أبواب النسيان، فالحرب التي لا تمييز بين صغير وكبير، لم تترك بيتًا إلا وخلفت فيه وجعًا، ولكنها أيضًا لم تستطع أن تُخرس نداءات المطالبة بالسلام، التي باتت اليوم أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، إن أصواتهم ليست مجرد أمل، بل ضرورة وطنية وأخلاقية، لإنقاذ ما تبقى من السودان وإنهاء دوامة الدم والمعاناة التي طال أمدها.
ذاكرة الألم:
وإن كنا اليوم نكتب عن الحرب، فغدًا نريد أن نكتب عن العودة، عن المصالحة، عن ميلاد وطن ينهض من تحت الرماد كطائر الفينيق، يحمل في عينيه ذاكرة الألم، لكنه يسير بثبات نحو مستقبل يستحقه، السودان لا يستحق هذا الصمت، ولا يليق به هذا الخراب، هو بلد الشعراء الذين غنّوا للحب والحرية، وبلد الكنداكات اللاتي دعون للسلام في كل صلاة، وبلد الأطفال الذين حلموا بمدارس لا معسكرات، لقد صار صوت السلام في السودان اليوم أشبه بنداء استغاثة من روح تنهكها المعاناة، تطرق أبواب العالم بدموع الرجال والنساء وصبر الأمهات وحناجر الشباب التي لم تفقد بعد قدرتها على الحلم، وفي زمن الحرب، يصبح التمسك بالأمل مقاومة، وتتحول الكلمة إلى سلاح في وجه الدمار، والحوار إلى طريق ضيق لكنه الوحيد الذي يمكن أن يفضي إلى الحياة، أما الشباب الذين خسروا فرص التعليم والعمل، ولم يعرفوا سوى أصوات البنادق بدل دفاتر المدرسة، لا يطالبون بالكثير، فقط أن تتوقف الحرب، أن تُمنح لهم الفرصة ليعيشوا كبقية شعوب الأرض. والنساء، اللواتي وجدن أنفسهن حارسات للبيوت الخالية، وممرضات لجراح لا تندمل، أصبحن اليوم فاعلات في كل ساحات النضال السلمي، يؤسسن مبادرات، ويوزعن الغذاء، ويبنين جسور الثقة في مجتمعات مزقتها العنصرية والكراهية والنزوح، لكن السلام لا يُولد من فراغ إنه يتطلب إرادة سياسية، وضغطًا شعبيًا، ومشاركة حقيقية لمن طال تهميشهم — وعلى رأسهم الشباب والنساء، ولهذا، فإن هذه الأصوات التي ترتفع اليوم وسط الخراب، لا تطلب صدقة، بل تطالب بحق حق الحياة، حق الأمان، وحق أن يُبنى السودان بسواعد كل أبنائه، على أنقاض أحلامهم، ما لم تُستجب هذه النداءات، فإن السودان ماضٍ نحو مستقبل أكثر قتامة، أما إن أُصغيت إليها، فإنها قد تكون بداية الخروج من النفق، وبداية كتابة فصل جديد، عنوانه: سلامٌ يصنعه أهله.
سلام يكتب بالحب:
إن النساء اللاتي فقدن أبناءهن، والشباب الذين تمزّقت أحلامهم على خطوط النار، والفنانين الذين قاوموا بالرسم والنشيد — كل هؤلاء ليسوا مجرد ضحايا، بل هم حُماة الذاكرة وبُناة السلام القادم، صوتهم هو الحقيقة الوحيدة الباقية وسط أكاذيب الحرب، وهو الضوء الوحيد في آخر هذا النفق الطويل، فليكن هذا النداء آخر الكلمات لا للحرب، لا للموت المجاني، لا لخراب الأوطان. نعم للسلام الذي يصنعه الناس، لا الحكومات وحدها نعم للسلام الذي يكتب بالحب، لا بالرصاص، نعم لسودان جديد، يُسمع فيه صوت الشعر أعلى من صوت السلاح، وما يدمي القلب أن هذه الأصوات التي تطالب بالسلام، تُقابل أحيانًا بالتجاهل أو القمع، وكأن الحديث عن وقف الحرب جريمة، وكأن المطالبة بالحياة نوع من التمرد في بلد يتأرجح بين توقيع اتفاقيات سلام هشة وانفجار كبير، تحولت مطالب البسطاء — بالأمن والغذاء والتعليم — إلى رفاهية في عيون من يملكون القرار، بينما هي في حقيقتها أبسط الحقوق الإنسانية، فالنساء اللواتي فقدن أبناءهن وأزواجهن في أتون المعارك، لم يجدن وقتًا للحزن، فقد وجدن أنفسهن مضطرات لحمل مسؤوليات أكبر من طاقتهن إعالة الأسر، علاج المصابين، وتهدئة صرخات الخوف في صدور الصغار، ومع ذلك، لم تنكسر إرادتهن، هن من يشيدن اليوم لغة سلام جديدة، لغة تفهمها كل أم فقدت، وكل فتاة رأت الحرب تسرق طفولتها.
أما الشباب، فهم جيل نشأ في قلب الأزمات، ولم يعرف في كثير من الأحيان طعم الاستقرار، لكنهم لم يختاروا الانسحاب. بالعكس، تجدهم في الصفوف الأولى لكل مبادرة تطالب بالعدالة الانتقالية، لكل نداء ينشد التغيير، ولكل حلم ببلد لا تُحكم فيه الرقاب بالسلاح، بل تُصان فيه الحقوق بالقانون والدستور، وبالرغم من إن الطريق نحو السلام طويل ومرهق، إلا أن هذه الجهود، وهذه الأرواح المتشبثة بالأمل، تقول لنا شيئًا مهمًا السودان لم يمت ما زال فيه نبض، ما زالت فيه حياة، وما زال بإمكانه أن ينهض، إن أنصتنا جيدًا لصوت الناس، لا لصوت المدافع، لقد آن الأوان لأن يتوقف النزيف أن تضع الحرب أوزارها، لا فقط بقرار فوقي، بل بإرادة جماعية تخرج من عمق الشوارع، من دموع الأمهات، من كفوف الشباب التي رُفعت كثيرًا طلبًا للحرية إن مستقبل السودان لا يُبنى على الخراب، بل على المصالحة والاعتراف والعدالة، وهنا، لا بد أن نُصغي أكثر من أن نُبرر، ونتواضع أكثر من أن نتعالى. فكل لحظة تأخير تعني المزيد من الموت، والمزيد من التشظي، والمزيد من الأجيال التي تفقد ثقتها في فكرة الوطن، فهل يسمع العالم؟ وهل يصحو الضمير؟ السودان ينادي — بصوت أمهاته، وشبابه، ونسائه — فهل من مجيب؟ (يتبع)