الإثنين, يونيو 16, 2025
تقاريرسياسة

النهود.. الجرح المنسي..!

تقرير: نصر الدين عبد القادر

منذ الأول من مايو، ومدينة النهود غربي كردفان، غائبة عن دائرة حقيقة الأحداث بسبب إنقطاع الإتصالات والإنترنت، وبالتالي غاب عن الإعلام حجم الدمار والخراب، والنزوح والتشرد والموت المجاني، وما حل بأهل المنطقة من فظائع لم يضعوا لها حسابا، ولم يظنوا يوما أنهم سيغادرون منازلهم للمبيت تحت أشجار الهشاب التي لا تظل ولا تغني عن الشمس الحارقة شيئا.

فكل شيء جاء بغتة، رغم أن قوات الدعم السريع كانت تحاصر المدينة منذ أيام قبل اقتحامها، وجميع المؤشرات كانت تدل على السقوط الحتمي للمدينة في أيدي تلك القوات، لكن الأصوات التي كانت تنادي بالحرب كانت أعلى، وأن المدينة بأبنائها وجيشها وكتائبها قادرة على دفن أي معتد عليها.. لكن الفاجعة كانت حاضرة، ولم تصمد تلك القوات بمختلف مسمياتها سوى زمن قليل، وإنسحبت بعدها، وتركت المدينة ومواطنيها عرضة لأبشع أنواع الانتهاكات، وإذلال الكرامة الإنسانية.

يقول أحد الفارين من جحيم ما حدث: “يوم كامل ونحن تحت الأسرة، الرصاص في كل مكان، لم يتركوا بيتا لم يدخلوه، بحثا عن العربات والقروش، دخلوا إلى منزل جيراننا، ووجدوا عربتين أتوز كانت أمانة عندهم، فطلبوا مفاتيحها، ولأنها لم تكن موجودة لديهم، أطلقوا الرصاص على ابن الجيران محمد في يده، وكان أحد الجيران من شدة خوفه اختبأ في دورة المياه، وحين رأوه أطلقوا النار مباششرة على رجله، فمات من النزيف، والخروج إلى الشارع خطورته كبيرة، فانتظرنا حتى الصباح، وقررنا كجيران دفنه، وعندما وصلنا إلى المقابر وجدنا أعدادا كبيرة تدفن موتاها منذ اليوم السابق، وما دفن كان يتجاوز المائة في يوم وليلة بمقابر الفكي يحيى. وعند عودتنا أوقفونا في صف، ونزلوا فينا ضربا، ونسمع منهم كلمات مرعبة، مثل: وديهم، صفيهم… دخل الرعب إلى قلوبنا.. ثم أطلقوا سراحنا وعدنا إلى المنازل، وهم يدخلون علينا بين فينة وأخرى.. فخرجنا من المدينة لا نلوي على شيء.. ولم ندر إلى أين نتجه، خرجت المدينة عن بكرة أبيها شرقا وغربا.. مشينا من قرية إلى قرية.. القرى لا يوجد بها ماء، ولا طعام، وفي إحدى القرى ونحن مجموعة كبيرة كدنا نموت من العطش، ذهب شيخ يبحث لنا عن جركانة ماء، قرية كاملة ليس بها ماء للشرب.. ثم أرسلوا عربة كارو، فجاءتنا عند حدود التاسعة مساء بباقة ماء شربنا منها، وشرب بعض أبناء القرية، وفي الصباح غادرنا عبر كارو إلى منطقة أخرى وجدنا سيارة فخرجنا فيها”.

هذا ربما هو قليل من كثير قبل وبعد دخول قوات الدعم السريع إلى المدينة، فالمدينة محاصرة منذ أشهر، بل هي المدينة الوحيدة في ولاية غرب كردفان تحت سيطرة الجيش بالكامل، بعد سقوط جميع المدن والمحليات. في هذه الفترة حرمت المدينة من الخدمات، وتعذر تصدير منتجاتها الزراعية والحيوانية، حيث يعتمد جميع السكان على الزراعة والرعي، خاصة وأن سوق المحاصيل بالنهود يعتبر من أكبر الأسواق العالمية في تصدير الصمغ العربي، إضافة إلى حب البطيخ، والفول السوداني، والكركدي، والضان الحمري المعروف بجودته، والمرغوب في الأسواق الخليجية، خاصة المملكة العربية السعودية في موسم الحج.
أعود إلى محدثي وهو يروي بحسرة وتيه، وأنا أستمع إليه بدموعٍ ساخنة ظلت تسيل على خدي لا إراديا، فيقول: أنهم خرجوا ولم يعلموا شيئا عن بقية أهلهم، كلٌّ خرج من طريق، وبسبب انقطاع الإنترنت، لم يدر أحد عن أحد شيئا، سوى أولئك الذين وجدوهم يستظلون في الخلال بشجر الهشاب، أو أولئك الذين ذهبوا إلى منطقة ود الحليو التي تبعد كيلومترا واحدا غربي المدينة، وكذلك منطقة ود شعيفون وأزيرق، وجميعها تقع على الجانب الغربي للمدينة، على بعد 5-10 كلم.

من جانب آخر تقول الطبيبة نفحات (اسم مستعار) تعمل بمركز غسيل الكلى بالنهود، إنّ المركز مكتظ بالمرضى، من مدن دارفور وبقية مدن غرب كردفان، وجميعهم في حاجة مستمرة للغسيل، لكن مع توقف المستشفى عن العمل، فإن مصير أولئك المرضى في حكم المجهول، لكن المؤكد أن أعدادا منهم انتقلوا إلى الدار الآخرة.

المدينة الآن..!

الحال الآن في مدينة النهود كأنها مدينة اشباح.. بلا ماء، ولا كهرباء، ولا دواء، مع ذلك اضطر بعض الذين غادروا المدينة في أيامها الأولى إلى العودة إلى المدينة، هربا من جحيم آخر، وهو جحيم المرض والجوع والمبيت في العراء.. عادوا مرة أخرى إلى مصير مجهول، خاصة وأن بعض صفحات الداعمين للجيش على منصة فيسبوك، ظلت تتوعد الذين لم يغادروا المدينة بالتصفية، وتصفهم بأنهم متعاونين مع المليشيا بحسب وصفهم، وهو ما حدث بالفعل من تصفيات في مدينة الخوي بعد استعادتها من قبل الجيش والكتائب المساندة له، ووصف قائد قوات الاحتياط بالنهود حمد الصافي في فيديو من الخوي، القريبة من مدينة النهود من الناحية الشرقية: إن الخونة قدموا للعدو المياه.

هذه التهمة يراها البعض غريبة بحكم القوي على الضعيف، ويتساءل آخرون: ماذا يفعل إنسان تجاه إنسان يحمل سلاحا حين يطلب منه ماء أو أكلًا، خاصة وأن الواصف لذلك الشخص هرب وتركه عرضة لكل أنواع الانتهاكات.

في مدينة النهود يقول شهود عيان إن جميع ألواح الطاقة الشمسية التي كانت تعمل بالابار التي تمد الريف بالمياه، مما أدخل الريف والمدينة في عطش عظيم، خاصة وأن الفصل صيف في تلك المنطقة، بينما شوهدت تانكرات مياه وفرها الدعم السريع تمد المدينة والقرى القريبة منها بالمياه، وذلك بعد تشكيل حكومة مدنية، وافتتاح السوق، حيث يقول أحد المتحدثين إن المواطنين أدوا صلاة الجمعة الماضية في المساجد. ويقول آخر ـ فضلنا حجب أسمائهم جميعا حفاظا على حياتهم ـ إن الانتهاكات التي وقعت على المواطنين كبيرة، والاغتصابات كثيرة، لكن طبيعة إنسان المنطقة لا يتحدث عن مثل تلك المواضيع، لأنها تعتبر وصمة عار تلازمه مدى الحياة.

وبالرغم ما ورد بخصوص تشكيل حكومة مدنية بواسطة قوات الدعم السريع، وجلوسهم مع ناظر عموم قبائل دار حمر، عبد القادر منعم منصور، والذي قرر عدم مغادرة المدينة، وظهر في فيديو يظهر عليه الإعياء والمرض مع قيادات من الدعم السريع، إلا أنّ واقع الحال، مع ندرة ما يرد من أخبار، فإن الحياة هناك معطلة بحكم السلاح، والجوع والعطش والمرض، وما هو الأمر الذي جعل أبناء المدينة في الخارج ينادون بضرورة تنشيط عمل المنظمات الإنسانية لإنقاذ آلاف الأرواح، والضغط على وقف النزيف الذي يحدق بالمنطقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *