الأحد, نوفمبر 2, 2025
مقالات

الوصول مرة ثانية الى دار السلام (6)

كتب: حسين سعد

حين لامست العبارة ( كلمنجارو) وهي ذات زاهية الإحمر والأبيض وبها كراسي فخمة ومريحة ونوافذ واسعة مطلة على المحيط بجانبي العبارة عندما لامست رصيف ميناء دار السلام، قادمة من زنجبار بدا المشهد كلوحةٍ حيّة تتنفس الضوء والحركة. كانت الشمس قد انتصفت كبد السماء وأشعتها الحارة وشمسها تتسلّل من وراء الأبراج والمآذن، يغسل وجه المدينة بضوءٍ ذهبيّ ، فيما تلوح رافعات الميناء كأذرعٍ عملاقة تمتد لتحضن البحر وتستقبل القادمين من رحلاتهم البعيدة، ارتجّت السفينة ارتجاجاً خفيفاً حين لامست المرسى، وانطلقت أصوات صفارات العمال، وصرير الحبال وهي تُلقى على الأعمدة المعدنية. توقّف هدير المحركات بعد ساعة ونصفها من العزف البحري، وساد صمتٌ قصيرٌ يليق بالوصول. كان البحر خلفنا ما يزال يتنفس ببطء، كمن تعب من مرافقتنا ويريد أن يستريح، وقفتُ على الدرابزين أرقب المشهد: مدينةٌ تنهض من تحت الضباب مثل قصيدةٍ لم تكتمل. المراكب الصغيرة تتراقص حول العبارة، والباعة يصيحون بأسماء الزوار، والهواء يختلط فيه عبير البنّ برائحة الموز والمانجو . إنها دار السلام بكل صخبها ودفئها، المدينة التي تجمع بين البحر والمدينة، بين التاريخ واللهاث اليومي للحياة، تدافع الركّاب نحو المخرج، كلٌّ يحمل حقيبته الصغيرة وأمله الكبير،

“ها نحن في دار السلام… لا تنسَ أن تشكر البحر حين تغادره، فهو الذي حملنا ولم يخذلنا
نزلتُ إلى الرصيف، كان الزحام يحتضنني دفعةً واحدة، أصوات السائقين تنادي
تلك أسماء الأحياء الكبرى في دار السلام، كأنها موسيقى المدينة الخاصة.

في الطريق من الميناء، بدت المدينة تُستعيد أنفاسها: الباعة يفرشون فواكههم على العربات، الحافلات الصغيرة تتدافع في الشوارع، والبحر يلوّح من بعيد كصديقٍ وفيّ لم يغادر تماماً. كان ثمة شيء في دار السلام يُذكّر بزنجبار، لكنه أكثر صخباً، أكثر ازدحاماً، كأنّ المدينة شقيقة كبرى تملك ملامح العائلة نفسها ولكن بطريقتها الخاصة.

جلستُ في مقهى مطلّ على الميناء، طلبتُ فنجان قهوة تنزانية وبدأتُ أكتب في دفتري الصغير، ثم خرجت مع صاحب ركشة قادني الي فندق ريلاكس
فالرحلة من زنجبار إلى دار السلام ليست عبوراً فوق الماء،والسماء بل عبورٌ بين لغتين للبحر، بين جزيرةٍ تحلم ومدينةٍ لا تنام.

رفعتُ رأسي نحو الأفق، كانت العبارة التي جاءت بي قد بدأت تستعدّ لرحلة العودة. صفّرت صفّارتها الطويلة، واهتزّ قلبي معها. كان صوتها أشبه بوداعٍ جديد، وكنت أعلم أن البحر يحتفظ ببعض منّي هناك، في الزرقة الممتدة بين المدينتين.

فندق ريلاكس..

كانت دار السلام في منتصف النهار تبدو مثل عروسٍ تخرج من نهر الضوء، تضع على كتفيها شالاً من الضباب الخفيف وتتعطر بأنفاس البحر. خرجتُ من الميناء متجهاً نحو قلب المدينة، حيث تبدأ الحكايات الصغيرة في الأزقة وتنتهي عند البحر من جديد.

كانت الأرصفة تموج بالحركة؛ باعة الصحف ينادون بالعناوين، وصغارٌ يحملون أكياس الفول السوداني والذرة المشوية، بينما تمتد على الجانبين محلات الأقمشة والعطور القادمة من خلف البحار ودول الجوار والبهارات القادمة من زنجبار. كانت الرائحة تشبه الغناء — خليط من القرنفل والمسك والبحر، لا يمكنك أن تمر دون أن تحمل شيئاً منها على ملابسك.

هناك لا مكان للهدوء، كل شيء يتحرك بسرعةٍ واندفاع؛ سيارات تملأ الشوارع بأصوات محركاتها وصيحات مساعدي السائقين:

كانت الموسيقى تتسلل من كل زاوية، من المقاهي الصغيرة، ومن مكبرات الهواتف المحمولة التي تصدح بأغاني رموز الفن التنزاني الحديث الذين جمعوا بين السواحيلية والإيقاعات الإفريقية في مزيجٍ يشبه المدينة نفسها.
في المقابل، تذكرتُ أصوات الطرب الزنجباري، حيث العود والطبلة والكلمات الشعرية البسيطة التي تحكي الحب والبحر والفراق، فقلت في نفسي: “زنجبار هي الذاكرة… ودار السلام هي المستقبل الذي يركض نحو الضوء.”
واصلتُ السير مع صاحب ( الركشة ) اسمه ديلي الذي أقلني من الميناء الي الفندق ثم الي احد المطعام وجولة في المدينة بعد منتصف ليلها جلستُ عند أحد الطولات وطلبت طبقًا من السمك المقلي وهي من أشهر وجبات الساحل التنزاني، تُقدَّم مع شرائح الليمون والفلفل الأحمر الحار، بينما طلب ديلي سائق الركشة اللحم المشوي (نجاما جومة) مع عصيدة الاوقالي، خرجنا من هنالك في جولة في المدينة من شارع الي اخر ومع مغيب الشمس التي كانت تغوص في الأفق، والسفن ترسو ببطء، والبحر يلوّن نفسه بدرجات البرتقالي والذهبي. كل شيء بدا ساكناً ومتحركاً في آنٍ واحد — كما لو أن دار السلام كلها تهمس لي، وتستقبلني بأذرعها المفتوحة، مدينةٌ مكتظة بالحياة، تتقاطع فيها اللغات واللهجات والروائح. الهواء هنا مشبع برائحة الملح والبهارات والعرق، مزيج غريب لكنه مألوف، كأنّه يحكي قصة كل العابرين الذين مرّوا من هذا الشاطئ منذ قرون ، صالات ومراقص المدنية كانت تضج بالموسيقي والحضور
وفي الطريق إلى الفندق، مررتُ بمحطة الحافلات التي تقل الركاب من المدينة الي الاحياء وأصوات السائقين تتداخل وهني تنادي بحسب وجهة كل حافلة كأنها أناشيد السفر اليومية، وأنا بين الزحام شعرتُ أني لم أصل فحسب، بل انتميت ، في تلك اللحظة، أدركت أن دار السلام ليست مدينةً تُزار، بل تُعاش — مثل البحر الذي يجاورها، كلّ موجةٍ فيها تحمل وعداً جديداً بالبدء من جديد (يتبع).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *