سيناريوهات المشهد السياسي
بقلم: حسين سعد
الأزمة السودانية أزمة مفتوحة على كافة الاحتمالات، وبها كثير من التعقيدات التي تزداد يوماً بعد يوم، ولنجاح الحكومة الانتقالية في تجاوز هذه التحديات لابد لها من التعامل مع أشكاليات أخري تتمثل في تباين القوى السياسية المختلفة(قوي مدنية ورفاق النضال المسلح)، التي يستحيل إرضاؤها جميعاً، والتي تريد بعضها أن تجد لنفسها مكاناً في صناعة القرار، وتنفيذه، وتطمح أيضا في الحصول علي نصيب كبير من (الكيكة) وقد تطلب أكثر من حجمها، أوتسعى لتعطيل العملية السياسية(الشاهد هنا تأجيل ولاة الولايات، والمجلس التشريعي والمطالبات بأصلاح الحرية والتغيير بحجة سيطرة شلليات بعينها علي العمل وتواجدها بأكثر من لجنة) هذه الوضعية تتطلب حل هذه المناكفات الحزبية الرخيصة، وبذل مجهودات علي أرض الواقع وتحقيق إنجازات سريعة، وملموسة للإنسان العادي خاصة في الاوضاع الاقتصادية والصحية.
تركة الخراب:
أما الأولويات العاجلة فقد ورثت الحكومة الانتقالية تركة كبيرة من الخراب ومؤسسات اقتصادية وتعليمية، وصحية منهارة، لذلك ستجد عملية إصلاح تلك المؤسسات مقاومة كبيرة من الذين ارتبطت مصالحهم بالنظام المدحور، وستعمل تلك المجموعات على إفشال وتعطيل اي عملية اصلاح، فضلا عن قيام النظام المدحور بتكوين قوات أمنية موازيه يتم الصرف المالي عليها بترف كبير، وتمثل تلك الفصائل المسلحة الجناح العسكري الضارب للحزب المدحور، فضلا عن وجود أعداد كبيرة من كوادر النظام البائد في مفاصل الخدمة المدنية لذلك لابد التعامل بحزم مع بقاياه ومراكز قواه في أجهزة الدولة.
تفكيك الدولة العميقة:
لقد تغلغت الحركة الاسلامية خلال السنوات الماضية داخل مفاصل الدولة الحيوية مثل الاجهزة العسكرية والأمنية، والاقتصادية والإعلامية، وأسست دولة موازية داخل الدولة السودانية التي لم تعد لها هيبة ولاوجود حقيقي،وأصبح للدولة الموازية كلمة الفصل مستعينة بالمال والسلاح والنفوذ، ولذا فإن هذه الدولة الموازية اذا لم تتم إزالتها فهي قادرة على إفشال الحكومة الإنتقالية، ولذلك فإن نجاح الجهاز التنفيذي رهين بتفكيك الدولة العميقة، والإستمرارفي إزالة التمكين ومحاربة الفساد.
السيناريوهات المتوقعة
ان معرفة السيناريوهات المستقبلية يتطلب الالمام، والاحاطة بما يدور في دول الجوار الإقليمي للسودان، ومواكبة التطورات في ليبيا وغرب افريقيا التي تحارب الارهاب والمجموعات الداعشية ،فمراقبة ومتابعة ما يستجد من أحداث، مهمة لجهة بلورة موقف موحد يتعاطى مع تقلبات المشهد السياسي ،لذلك لابد من خلق سياسيات خارجية متوازنة غير عدائية كما كان يفعل النظام البائد.
السيناريو الأول (النجاح في الانتقال وتحقيق السلام الشامل).
السيناريو الطموح والمتفاءل هو نجاح الحكومة الانتقالية في عبور تحديات الانتقال رغم كل العراقيل العديدة،وتحقيق السلام الشامل،والاستقرار، ويستند هذا السيناريو الراجح علي عدد من المؤشرات من بينها ما قاله رئيس مجلس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك أمس في حواره مع الزميل شوقي عبد العظيم من خلال شاشة التلفزيون القومي (لدينا فقط خيارين يجب ان ننجح او ننجح) واضاف (انه متفاءل رغم الصعاب بأننا سنعبر وسننتصر)، المؤشر الثاني والذي يستند عليه السيناريو هو الاتفاق علي مصفوفة مهام الفترة الانتقالية بين مجلس السيادة والجهاز التنفيذي وقوي الحرية والتغيير، صحيح ان هناك تباطوء في الالتزام بالمصفوفة التي حددت تواريخ، ومواقيت لاكمال بعض المطلوبات فضلا عن التباين في وجهات النظر بين الشركاء فيما يتعلق في قضايا رئيسية مثل معالجة الازمة الاقتصادية والعلاقات الخارجية،لكن الاتفاق على المصفوفة يعتبر خطوة جيدة ويمكن البناء عليها، وكما قال الزميل ماهر ابو الجوخ في تقرير له أن التوافق بين المكونات الثلاثة على مصفوفة لمهام المرحلة الإنتقالية العاجلة بتحديد قضايا وإطار زمني لتنفيذها يعد أمراً ضرورياً ،وحيوىاً ويساعد على تأسيس شراكة تقوم على منهج التعاون ويحد لقدر كبير من المنهج العدائي الملازم لشراكة مكونات المرحلة الإنتقالية، وهو بدوره سيزيد من فرص نجاح المرحلة الإنتقالية ويكفل لها تحقيق أهدافها ومراميها.
مشروع وطني:
اما المؤشر الثالث للنجاح في عبور صعوبات الانتقال الديمقراطي وتحقيق سلام شامل مع كل رفاق النضال المسلح، نجده ايضا فيما قاله حمدوك في حواره امس (لم نقل فشلنا، ولكننا لم ننجح منذ الاستقلال في خلق مشروع وطني متوافق عليه ونريد التراضي علي مشروع سياسي كيف يحكم السودان وهذا يحتاج الي مشروع وطني يقوم علي ركيزتين سياسية وتنموية يمكنهما خلق اساس متين لمشروع نهضوي يساعد في استدامه الديمقراطية والتنمية) المؤشر الرابع إدارك مكونات الحرية والتغيير ،ورفاق النضال المسلح، أن نهضة وتقدم السودان، وأستقراره في الاجابة علي سؤال كيفية حكم السودان، وليس من يحكم السودان، والاستفادة من دروس الماضي العديدة التي فشلنا من خلالها في احترام ،وتعزيز التنوع بدلا من مصادمته كما حدث في الماضي وأشتعلت الحروب ، فالمخرج في المشروع الوطني الذي يحترم التنوع وتعزيزه بدلا من محاربته، وما يعزز هذه الفرضية هو فشل كل اتفاقيات السلام منذ الاستقلال، وحتي اليوم في تحقيق السلام والاستقرار،المؤشر الخامس هو ان ثورة ديسمبر عندما خرجت في الشوارع بالعاصمة والولايات والقري لم يكن هدفها التعبير عن نقص الخبز والوقود، وانما إستعادة كرامة الانسان لذلك كان شعار الثورة (حرية -سلام -عدالة) و(يا عنصري ومغرور كل الوطن دارفور ) وغيرها من الشعارات الثورية ذات الدلالات الكبيرة،في بناء سوان جديد، أما المؤشر السادس للسيناريو المتوقع حدوثه هو الزيارة التاريخية التي قام بها رئيس مجلس الوزراء الي كاودا فضلا عن الاسناد الكبير الذي كانت تقوم به الحركة الشعبية شمال من مناطق سيطرتها في مظاهرات إسناد داعمة للثوار (الشفاتا والكنداكات).
مجلس الامن:
المؤشر السابع :أصدر مجلس الأمن الدولي بالإجماع قرارين نصّ أحدهما على تشكيل بعثة سياسية في الخرطوم مهمّتها دعم المرحلة الانتقالية في السودان، بينما نصّ القرار الثاني على تمديد مهمة بعثة اليوناميد في دارفور حتى 31 ديسمبر 2020 وينصّ قرار مجلس الامن الاول على إنشاء بعثة أممية متكاملة للمساعدة في المرحلة الانتقالية في السودان باسم (يونتيماس) لفترة أولية مدّتها 12 شهراً.ويطلب القرار من الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش أن يعيّن سريعاً مبعوثاً لرئاسة هذه البعثة الجديدة في السودان .وحدد القرار عدة أهداف استراتيجية لبعثة يونتيماس من بينها دعم تنفيذ اتفاقيات السلام المستقبلية، وتعزيز الحشد للمساعدة الاقتصادية والإنمائية، وتنسيق المساعدة الإنسانية بما في ذلك التعاون مع المؤسسات المالية الدولية، وضمان التعاون الفعال والمتكامل لوكالات الأمم المتحدة وصناديقها وبرامجها،والمساعدة التقنية لعملية صياغة الدستور، والتحضيرات للانتخابات والاصلاح القانوني والقضائي والمساءلة وسيادة القانون. أما المؤشر الثامن: يمكن ملاحظته في التقارب الاستراتيجي بين الحركة الشعبية شمال التي تتمسك بالعلمانية، وتجمع المهنيين مع اتفاق خجول من بعض القوي السياسية، لكن هذا السيناريو الطموح يتطلب وضع معالجات ضرورية ،وتقديم تنازلات لصالح قضية مفصلية كانت سببا في اندلاع الحروب والنزاعات، وسداد المهر الذي يستحقه السلام، واحتفاظ الثورة بزخمها، والتفاف الجماهير حولها، لاتسكمال عملية التغيير، والاهتمام بلجان المقاومة وتدريبهم والدفاع عنهم في ظل الحملة الواسعة لشيطنتهم، وجرهم لقضايا لاتخدم الثورة،وتقديم قيادات ورموز لقيادة المرحلة واتاحة الفرصة لهم بعيدا عن الشلليات، وتكوين تحالفات استراتيجية بدون مزايدات وابتزاز، وان تعمل هذه التحالفات علي قطع الطريق امام الزواحف،وأبراز قضايا الحرب والسلام اعلاميا وعكس تداعياتها وأثارها والاحتفاء بالتنوع والتعدد مع معالجة أوجه القصور في التدخلات السابقة في عملية السلام والاقتصاد ومعاش الناس وإستكمال عمليات إزالة التمكين والاهتمام بالموسم الزراعي بشقيه.واعلان ولاة الولايات، ومنحهم برنامج للتنفيذ لمسائلتهم حال الفشل والاستفادة من تجربة الوزراء الحالية، والتي تطرح سؤال مهم (هل إستدعت الحاضنة السياسية وزيرا تقاعس عن واجبه ،او ان ادائه كان دون المطلوب، وهل يرجع الوزراء الي الحاضنة السياسية التي دفعت بهم الي تلك المناصب لمسائلتهم) أخيرا الحرية والتغيير تحتاج الي رص صفوفها جيدا،ومراجعة كوادرها المنخرطين في أكثر من لجنة ،وهذه الجزئية كانت سببا في حالات تململ مكتوم سرعان ما انفجر في المذكرات والبيانات المطالبة بتصحيح الاوضاع،كذلك يجب ان ترتب الحرية والتغيير بالولايات التي بها إشكاليات عديدة.
السيناريو الثاني (الفشل التام)
الفشل والاخفاق الكامل وهو سيناريو متشائم لكن له مبرراته الموضوعية داخليا وخارجيا في الاخيرة يشهد العالم حاليا الحرب علي جائحة كورونا، وهناك ايضا الصراعات الاستراتجية بين الدول العظمي، والحرب علي الارهاب، والهجرة، وعلي المستوي الاقليمي هناك صراع المواني بالقرن الافريقي، وهذا السيناريو يبدو الأكثر احتمالا في الوقت الراهن، وهو أن يستمر الفشل في أداء اجهاز التنفيذي مع تصاعد المطالب والمشكلات الصحية والاقتصادية والاجتماعية والصراعات القبلية في الولايات بما يدفع إلى بدايات حالات من التفلتات، والغضب الشعبي، حيث يقف النظام البائد وراء اي خطوة تعمل من أجل عدم الاستقرار(النموزج هو مظاهرات الزواحف التي تستنكر وجود كورونا) ويستند هذا السيناريو أيضا الى مجموعة مؤشرات أبرزها تمدد الحظر بسبب كورونا، والاستفادة من ظروف الحجر الصحي وتعبئة الجماهير، ومطالبتهم بان يكون هناك دعم اقتصادي لهم ويشير البعض الي ظروف وأوضاع أصحاب رزق اليوم باليوم،المؤشر الثاني هو الحملات الاعلامية عبر منصات التواصل الاجتماعي، التي يقف وراءها ما يُعرف بالجداد الاليكتروني والاخبار الكاذبة، أما المؤشر الثالث يمكن ملاحظته لتباعد المواقف بين وزير المالية واللجنة الاقتصادية للحرية والتغيير، وتبادل التصريحات والبيانات النارية بينهما ،أما المؤشر الخامس هو البطء في اعلان ولاة الولايات والمجلس التشريعي لحسم الصراعات الامنية القبلية التي تمددت بطول البلاد وعرضها وإنتقلت من ولاية أخري.المؤشر السادس :التأخير في تكوين لجنة أزالة التمكين ببعض الولايات وعدم حل الاشكاليات العميقة وسط الحرية والتغيير.
السيناريو الثالث (تغييرات طفيفة)
بقاء الاوضاع علي حالها مع أجراء تغييرات طفيفه هذا السيناريو ضعيف لكن هناك شواهد ومؤشرات ترجح حدوثه ،ومن بينها الوثيقة الدستورية ،ومايدور حولها من جدل كبير، وتمدد المجلس العسكري علي صلاحيات الجهاز التنفيذي، وتراخي الاخير علي تلك التجاوزات، ومن بينها ملف السلام ،وإهمال مصفوفة مهام الفترة الانتقالية ،ويستند هذا السيناريو على أن التغيير الذي حدث (هبش) رأس النظام المدحور، داخليا شهد السودان من قبل ثورتي أكتوبر وأبريل ولم تحدث التغييرات المطلوبة ، بينما ظلت مؤسسات النظام البائد،وشبكة مصالحه قائمة وخصوصاً الأجهزة العسكرية والأمنية والاقتصادية والقضائية، والدولة العميقة التي لا تزال تملك الكثير من أدوات القوة والضغط، والقدرة على تعطيل وإفشال أية تغيرات جذرية يُمكن أن تضرُّ بها. (النموزج هنا نقابات النظام البائد التي تعقد اجتماعاتها وتخاطب مؤسسات عالمية) وخارجيا حدث هذا النموزج في كل من تونس ومصر واليمن.
الخاتمة
مستقبل نجاح الانتقال الديمقراطي بالرغم من غموضه، وتحدياته الا انه يعتبر الفرصة الاخيرة للسودان الذي عاش أكثر من نصف قرن تحت حكم شمولي مستبد ،لذلك أن الاوان اليوم قبل بكرة الي إغتنام هذه الفرصة للنجاح في الانتقال وتحقيق السلام الشامل، وإحترام التنوع والتعدد والاحتفاء به ،وهو السيناريو الراجح لكنه يحتاج الي روافع وإسناد، وفي ذات الوقت نري ان مؤشرات السيناريو الثاني والثالث (الفشل وابقاء الاوضاع) ماثلة وتجد من يدعمها ومن بين الداعمين هناك من هم داخل قوي الحرية والتغيير، ونعني شبكات المصالح الاجتماعية والاقتصادية التاريخية،وتاريخنا القريب والبعيد يحكي لنا ماذا حدث عقب ثورتي أكتوبر وأبريل ،وعدم ايفاء الرعيل الاول في التزامه لقيادات جنوب السودان، ومطالبته لهم بالتصويت لصالح استقلال السودان مقابل منح الجنوب الفيدرالية،ودفعت بالعديد من الكتاب السودانيين لاصدار كتب عديدة حول ذات القضية من بينهم الراحل ادكتور منصور خالد (النخبة السودانية وإدمان الفشل) وكما قالت الحركة الشعبية شمال في كتابها المبادي فوق الدستورية ان الأجداد المؤسِّسون للدولة السودانية صمتوا بعد خروج المستعمر عن الإجابة على حزمة من الأسئلة، وعندما حاولوا الإجابة عليها كانت كل الإجابات خاطئة، لذا مازلت الأسئلة القديمة متجددة وقائمة مثل (كيف يحكم السودان) و(ماهي الدولة السودانية).