مفوضية “من أين لك هذا؟”
بقلم: حيدر المكاشفي
أقرَّ النائب العام تاج السر الحبر، بصعوبة الحصول على المعلومات التي تكشف الفساد في مؤسسات الدولة، وطالب بتنفيذ حزمة إجراءات بينها إنشاء مفوضية لمكافحة الفساد. وحديث النائب العام هذا إذا حللناه إلى عناصره الأولية، وعلى الطريقة البلدية العادية، فلا شك أنه يعني الفساد (المُدغمَس)؛ ولك أن تقول (المُصلَّح) الذي يلغ فيه فاسدون (حويطون) وحرفاء وليسوا (كيشة وداقسين) على قول المتنفذ الإنقاذي إسماعيل المتعافي، فمن فهلوات صاحبنا المتعافي للمخارجة من شنشنات واتهامات تدمغه بالفساد، أنه قال مرة على رؤوس الأشهاد: (أنا ما كيشة)، أمارس العمل التجاري والاستثماري باسمي ورسمي وخاتمي، وإنما من وراء حجاب ومن الباطن بالمشاركة مع إخواني الذين تصدر الرخص بأسمائهم، فهناك إذن من يمارسون الفساد من الباطن وعن طريق (لفة الكلاكلة) كما يقول الحبيب د. مرتضى الغالي، وغيرهم ممن يُخفون أي أثر يدل عليهم، بينما هناك (فارات) وغشماء غير حرفاء لا يجيدون مُداراة فسادهم فيسهل اكتشافهم، ولهذا لا بد للمفوضية الجديدة من اتخاذ منهج مختلف وجديد وفاعل وناجز.
وليس هناك من نهج ناجز يناجز الفساد بحسم وقوة، أفضل وأنجع من نهج من أين لك هذا، أما إذا انتظرت المفوضية المرتقبة مدها بالأدلة القانونية والمعلومات الدامغة والموثقة، ولم يكفها أن تطل الدنانير بأعناقها، ولم تكفها كل المظاهر التي تكاد تجعل كل مفسد يقول “خذوني بما أمتلك من أرصدة بنكية وأبتني من العمائر والفلل الفاخرة وامتطى السيارات الفارهة وبنى بالزوجات الجميلات ما حدده سقف الشرع أو أقل قليلاً، وهو الذي إلى عهد قريب لم يكن شيئاً مذكوراً إلا من وظيفة حتى هي لم يرتقِ إليها بالطريق المشروع، فلن تُكافح المفوضية سوى الفتافيت ولن تقبض إلا على كتاكيت الفساد.
والحقيقة أن للفساد أوجهاً وضروباً وفنوناً عديدة، ولقبيلته خشوم بيوت وبطوناً وأفخاذاً، أقلُّها شأناً وخطراً هو ما يستطيع أى مراجع مالي مبتدئ كشفه، فمن فرط بساطته وغشامة مرتكبه هو أنه يترك دليلاً عليه وهذا هو ما أسميه (الفساد أبو أدلة). أما أخطر أنواع الفساد وأكثرها فتكاً بالمال العام هو ذاك الذي لا تطاله يد المراجعة، ولو طالته لن تجد دليلاً عليه وفق التعريف القانوني لـ(الأدلة) وهذا هو الفساد الذي أسميه (أبو من غير أدلة) قانونية وأوراق ثبوتية تذهب بمرتكبه إلى سوح القضاء، ولكن من حكمة الله ولطفه على عباده المساكين أن جعل لهذا الفساد الغميس المدغمس دلائل وإشارات وأمارات وعلامات أخرى تدلُّ عليه، فالدنانير دائماً ما تأبى إلا أن تطل برأسها مجرد إطلال الدراهم والدنانير دليلاً يستوجب المحاسبة والسؤال، ولكن مشكلتنا هنا مع هذا النوع الخطير من الفساد هي أنك لو أشرت لأي شبهة فساد لطالبك القانونيون بالبرهان والدليل ولأسكتوك مُحذرين من الحديث عن الفساد بلا دليل ولا برهان، ويُقال لك اخرس واخسأْ ولا تبهت الناس ولا ترمهم بغير دليل، وأنّى لك بالأدلة والبراهين، وهي كانت حكراً على هؤلاء الفاسدين، ومن أين لك أن تعلم ما ستروا وما أخفوا والدليل (خلوّها مستورة)، ثم يزايدون عليك بالقول إن كانت لك أدلة موثقة قدمها، وهم طبعاً يعلمون استحالة معرفتك بهذه الأدلة، دعك من الحصول عليها لأنها أصلاً متداولة بين المفسدين أنفسهم، ويتعذّر وصول سواهم إليها، اللهم إلا إذا اختلف اللصوص أو انتابت أحدهم صحوة وما أندرها.
ولهذا يبقى من الضروري جدَّاً لمفوضية الفساد المزمع إنشاؤها، أن لا تشتغل إلا على قانون “من أين لك هذا؟”، إذا أُريد لها أن تكون ناجزة وحاسمة لاجتثاث الفساد ومحاسبة الفاسدين، وعليه لو كان لي أن أقترح مسمى للمفوضية المنتظرة أن يكون اسمها مفوضية “من أين لك هذا؟”.