الثلاثاء, أكتوبر 15, 2024
مقالات

المدنية والوعي الثوري

بقلم: لمياء الجيلى
لمدي ثلاثة عقود ناضل الشعب السوداني بأشكال مختلفة لمناهضة الحكم الدكتاتوري العسكري الذي انقلب على نظام ديمقراطي منتخب.. وعلى مدى ستة أشهر كان الشعار المفضل والمعبر عن وجدان الثوار “حرية.. سلام.. وعدالة”. بعد مجزرة فض الاعتصام أمام القيادة العامة، تردد الهتاف داوياً “حرية.. سلام.. وعدالة.. مدنية خيار الشعب” وهتاف “جيبوا حكومة الحكم المدني ودم الكوز الكتل الصائم”. فعبارة مدنية خيار الشعب لم تأت من فراغ بل مثلت قمة الوعي الثوري.. فقد عبر فيها عما يجيش به قلبه من غضب وحزن وقهر أصابه لقرون عدة تشكل وتمثل أمامه في أقبح صورة وأبشع جريمة هزت قلوب كل العالم وفجعت قلب الثورة النابض وغزته ببركان من الغبن والقهر، و لا زال ينتظر نتائج لجنة التحقيق حول هذه المجزرة وحول جرائم القتل التي ارتكبت منذ اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة.
أدرك الثوار بوعيهم وبتجاربهم المريرة أن لا فائدة من الثورة ما لم تؤدى الي بناء الدولة المدنية التي يتساوى فيها الجميع، وتحقق الرفاه والنماء للشعب السوداني، وتحقق العدالة وألا يكون هنالك من هو فوق القانون. كما أدركوا أن بناء الدولة المدنية يتطلب وعي شعبي وإرادة سياسية ووطنية لم تتوفر بعد وتحتاج منهم لمزيد من النضال والتضحيات. فبناء الدولة المدنية تساعد في فك الاشتباك بين ما هو مدني وما هو عسكري، وذلك بتوزيع الأدوار والمهام فكل يؤدي مهامه الأساسية ويتفرغ لها فيبدع ويتألق. فالدولة المدنية بهذا المنظور تساهم في بناء وتعزيز دور مؤسسات الدولة المدنية الحديثة من برلمان واعلام حر، وقضاء مستقل ومهني ومن قوانين يتساوى فيها الجميع دون تمييز مبني على أي شكل من الأشكال سواء كان على أساس الدين أو النوع، او العرق، أو الأصل الاجتماعي والثقافي. كما أنها تساهم في تطوير وبناء المؤسسات العسكرية، وتمكنها من قيام بمهامها الأساسية ودورها المنوط به في حفظ أمن البلاد والعباد بمهنية وباستقلالية وبحرفية تامة.
ترتكز الدولة المدنية على مبادئ عديدة وهامة مثل مبدأ المواطنة والسلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة أمام القانون ومبدأ الحقوق والواجبات.. فلكل مواطن حقوق متساوية وواجبات يجب عليه الالتزام بها. كذلك للدولة المدنية قواعدها المتينة التي تٌبنى عليها هي مشاركة جميع أفراد المجتمع بفعالية في بنائها ونمائها، وتعتمد على نظام سياسي قوي يحترم الدستور ويحقق الشفافية والمساءلة والمحاسبة، ويضمن كفالة الحقوق، وسيادة حكم القانون، وفصل السلطات، ودون تحقيق هذه الأشياء لا يمكن الحديث عن الدولة المدنية ولا عن تحول ديمقراطي أو تغيير سياسي حقيقي.
تحقيق مطلوبات الدولية المدنية يصب في مصلحة جميع المواطنين سواءً كانوا مدنيين وعسكريين، وهذا عكس ما يتراءى لعدد من القوات العسكرية، وكذلك الشرطية (على الرغم من أن الشرطة تعتبر مؤسسة مدنية ويجب أن تتبع الي السلطة التنفيذية). فمطالبة الثوار بالمدنية وجدت رد فعل عنيف من بعض القوات وزادت من حدة التوتر والهوة بين تلك القوات والشعب السوداني والذين كثيراً ما يُرددون وأحياناً بتعسف (دي المدنية الدايرنها)، كما وضحت في التعامل العنيف مع الثوار و الأطباء والمحامين ولجان المقاومة من قبل تلك القوات، وهم ولا يدرون أنهم أحوج من غيرهم لبناء الدولة المدنية واستقرار الوطن وتقدمه وازدهاره، وأن لكل دوره ولا يحق لأى منهم التغول علي سلطات الآخر وممارستها.
تأخير أو بالأصح تأجيل إنشاء المجلس التشريعي الانتقالي واحد من عدة أسباب تعيق بناء الدولة المدنية في السودان وتعرقل الانتقال السلمي الديمقراطي، فحسب الوثيقة الدستورية في نسختها (الأصلية) الموقعة في 17 أغسطس 2019 جاء في الفصل السابع المادة 23 الفقرة 4 “يشكل المجلس التشريعي الانتقالي ويباشر مهامه في فترة لا تتجاوز تسعين يوماً من تاريخ التوقيع على الوثيقة”. وهذا التأجيل كان من أول الخروقات التي تمت للوثيقة الدستورية دون الرجوع للشعب السوداني الذي دفع ولازال يدفع ثمناً غالياً لتحقيق مطالب ثورته الميمونة من الحرية والسلام والعدالة وبناء الدولة المدنية، خياراً وطريقاً طويلاً اختاروه بوعي ثوري ولابد من الوصول اليه مهما كلف ذلك من ثمن ومهما طال الزمن.
غياب المجلس التشريعي الانتقالي أفقدنا أهم مبادئ الدولة المدنية والتي تتمثل في فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، إذ يمارس حالياً الجهاز التنفيذي مهام التشريع وهذا تداخل مخل في السلطات، وأفقدنا كذلك الدور الرقابي، وبالتالي ساعد هذا الوضع في الحيلولة دون تحقيق مبدأ المساءلة، وأوجد خلل كبير يقفل الطريق أمام الانتقال السلمي الديمقراطي. فالمجلس التشريعي وحسب الوثيقة الدستورية تتمثل سلطات واختصاصاته في سن القوانين والتشريعات. مراقبة أداء مجلس الوزراء ومساءلته وسحب الثقة منه أو من أحد أعضائه عند الاقتضاء، وإجازة الموازنة العامة للدولة، والمصادقة على الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية والإقليمية والدولية، بالإضافة الى سن التشريعات واللوائح التي تنظم أعماله واختيار رئيس المجلس ونائبه ولجانه المتخصصة.
عقب توقيع اتفاقية جوبا للسلام بين الحكومة الانتقالية والجبهة الثورية وتعديل الوثيقة الدستورية (في غياب المجلس التشريعي) بدأت المشاورات والمناقشات حول كيفية تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي وإشراك لجان المقاومة وغيره من المؤسسات بطريقة لمن تكون متوقعة بعد هذا التأجيل الطويل كما دار طويل حديث حول فاعلية المجلس التشريعي المشكل بناءً علي النسب و(المحاصصات)، و صراع آخر حول من يحق له اختيار عضوية المجلس ومن لدية تفويض من القوى الثورية لقيام بهذا الدور وهو صراع لا ينم عن نضج سياسي أو وعي بخطورة المرحلة التي تمر بها البلاد ولا بأهمية قيام مجلس تشريعي حارس وحامي للثورة وللشعب. وكلنا أمل أن يتم حسم هذا الأمر بسرعة، بشفافية وبتجرد وأن تعلوا مصلحة المواطن والوطن فوق أي مصلحة أخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *