الإمام.. يا له من فداءٍ عظيم
| مساهمات حرة |
بقلم: محمود الشيخ
دوماً ما أظن، أن وصف شخصٍ معين، ( بالنزيه أو الأمين) فيه ترسيخٌ لكون أن النزاهة والأمانة، وربما مكارم الأخلاق، لهيَّ الإستثناء، وأن الفساد الخُلقي هو القاعدة. فالأوجب أن يُذكر المذموم من الفعل حتى يتجنبه الناس، لا ماهو محمود.
الإستثناء عندي فيما يخص العموم، لا الخصوص.. أي: أن المحافظة على ماهو عام، ينبغي ذِكرها، تشجيعاً وحثاً للإحتذاء من جانب ناشدي الحُكم وتولي زمام المسؤولية… وهنا يحق القول، بأن الإمام الصادق المهدي، ورغم الإنتياشات التي ظلت تطاله حول مواقفه وآرائه السياسية، يمكن الإشارة عليه، أنه كرئيسٍ للوزراء، عبر دورتين متباعدتين، زانه الشباب في أولها، وخطّه الشيب في ثانيها، لم يستسهل مالاً عاماً، ولا غض الطرف عن هدره، وكان أميناً على ممتلكات البلاد، صائناً لسمعتها، وحريصاً على علاقاتها الخارجية، فما لازمته عُزلة، ولا طوّقه حِصار، ولا جدَّف بالدولة، انحيازاً لجهةٍ أو تيار على المستويات العالمية والإقليمية والقرية. أما النجاح أو الاخفاق في أمر الإدارة، ذلك شأن آخر.
خصيصةٌ أخرى لألأت صدرَ الإمام، وهى البعد عن الصغائر … لم أسمع أو أقرأ، بأنه يمم وجهه، ذات غضبةٍ أنوف، ناحية نيابةٍ أو محكمة، بينما راحة كفِّهِ تعتصر صحيفةً، شاكياً لكاتبٍ أو رسّام، طالما كان مايلحقه من ذمٍّ فيها، مبعثه ومنشأه شخصيته العامة.
ترفّع الإمام كذلك عن نقائص بعض من مارس السياسة، وفي ظنه، أي، ذلك المُمَارِس، أن قذارة الملفوظ وتعفن المكتوب، لهما ضمن تصنيفات أعمال السياسة. وعلى العكس تماماً، ظل الإمام يُقْدِم على ماهو مقتنعٌ به وفق رؤيته ومنهجيته ومبادئه، لا يوقفه هجومٌ، ولا يصده صياح، بل كان يقابل كل ذلك بقولٍ ومكتوبٍ دِثارهما العِفّة، والبُعد عن الغُلو وما هو فاحش، وللغرابة! ولأن الشيئَ بالشيئِ يُذكر؛ اكتشفت اليوم فقط، أن الإمام ليس له مقطع فيديو قديم ، أو صورةً، أو حواراً تلفزيونياً في العهد الحديث، بدى فيهم غضوباً أو منفعلاً، أو متدثراً بالخبث ! إنما على الدوام رابط الجأش، واضحاً، قابلاً للرأي المضاد ، مناهضه .. تلك من خصائل وطبائع الفِرسان والقادة.
الإمام الصادق المهدي، وبما له من نفوذ وامتدادات اجتماعية، لم يحدثنا التاريخ أنه (شخصياً) حاول اختراق القوات المسلحة، بما يمكنه من السيطرة عليها، ايجاباً أو سلباً. يُعزى ذلك الأمر، لقناعة الرجل الراسخة، أنه ليس للديمقراطية من بديل.
الإمام كان رجل مجتمعٍ بامتياز، وفي ذلك فاق أقرانه، حتى يُخيَّل لي، ان المعزول، عمر البشير، فطن لهذا الأمر، وحاول أن يزاحم الرجل في ذلك الميدان، لكنه فات عليه، أن اجتماعيات الصادق ليست مصنوعة، بل هى نتائج تربية أسرية، وسلوك ممارس في مدينة أم درمان، تلك المدينة التي تتشبه بأخلاق القرية في التواصل الاجتماعي، و السلوك ذي التحضر في الحياة العامة، قبل هجمة التتر.
كذلك، فإن للإمام، بل، ولبيته وأسرته مكانة روحية في السودان، كشأن المراغنة والأدارسة والبيوتات الدينية وقادة الطرق الصوفية ، فيكون لوجودهم في الأتراح والأفراح بُعداً آخراً، وفقاً لكل أسرةٍ ومعتقداتها.. أما المعزول، فما كان تواجده الاجتماعي، الاختياري منه و(القسري)، إلا بسبب صولجانه، و أولئك الذين يعتقدون أن في وجوده معيتهم، إنما هو إشارة، أننا يا قوم نافذون!!
الصادق المهدي، وبدون صولجان كان مطلباً، في إطار دوره الشامل، في كل مناسبةٍ خلال الثلاثين عاماً القحطاء التي مرت، فهل يستوي الزرعان؟!!
الصادق المهدي، كسياسي ورجل دولة، محل جدلٍ وخلاف، وكذلك رؤاه وفترات حكمه، لكن وطنيته ما كانت موضعاً للشك، وكذلك علمه وورعه وتهذيبه الجم. صحيحٌ أن الرجل لديه رأيٌّ في الثورات التي من شأنها تغيير التركيبة الإجتماعية، ويرى أن في ذلك إضرار وخطرٍ جسيم في الإطار الكُلي، بينما قد يرى آخرون، أن رؤيته تلك ذاتية مصحوبة بمخاوف شخصية، ليس لها بُعد قومي… ذلك رأي والآخر رأي، فما أعظم اشتجار الآراء في الرحاب الواسعة، دون قبضةٍ أمنية… عندها يسهل طرح الحجج، والحجج المضادة، بما يخدم الديمقراطية وترسيخ جذورها .
كشف رحيل الإمام الصادق المهدي، عن حجم التماسك الاجتماعي لهذا الشعب المدهش، ومقدار التسامح الموجود في دواخله، بل تبين ذلك حتى أيام مرضه… إذ تناست الخليقة السودانية والساسة تشاكس الآراء وتباين المواقف، وتوقفت حملات الاستهزاء والسخرية التي نشبت – إسفيرياً – بضراوة أيام ثورتنا المجيدة من قِبل الأجيال الصاعدة ، وتم استبدالها بأكفٍّ مرفوعة، تضرعاً للسماء، لأجل شفاء الإمام. وبعد رحيله كانت دعوات الرحمة والغفران والحزن ومكتوبات الرثاء أسياداً للموقف.
باختصار.. رحيل الإمام كان هو الماء الثجّاج الذي نزل، فغسل الشعب السوداني من كل الأدران الوجدانية والرواسب التي علقت بالنفوس خلال حكم الطغمة الفاسدة، فهل كان الشعب يحتاج لذلك الفداء العظيم حتى يسترد الوعيٍّ الذي سلبته منه طُغمة الإنقاذ (المُهلِك) ، كيما يواصل شق الطريق، موحداً متحداً، نحو إكمال متطلبات ثورته الميمونة ؟!
يبقى القول، رحل الإمام التواق للديمقراطية، والذي ما كان له أن يمارس نشاطاً إلا من خلالها، لكونه وحزبه كائناتٍ ديمقراطية .. ولابد لجموع الشعب السوداني من أن يعضوا بالنواجز على ثورتهم التي ما تحققت إلا بنضال السنين، عبر مواصلة الجهد الحثيث، كيما تترسخ الديمقراطية، وتصبح هي الأساس الذي لا يجوز عليه أي مُنقَلب.. ذلك أمرٌ يتطلب الاتفاق الجاد حول وحدة الهدف، ووضع أسسٍ له، في إطارٍ جامعٍ، لا مجال فيه للتشاكس أو ممارسة الطفولة السياسية، ولا الاستقواء بالخارج، أو الاستجداء بقوةٍ مسلحة، أيّاً كانت… ينبغي أن يكون خيار الشعب الذي لا فِصال فيه هو الديمقراطية، قطعاً لطريق الذين يستثمرون في تقاطع الرؤى الحزبية، ترويجاً لأنه لا أمل يرتجى في العملية الديمقراطية. فما الديمقراطية إلا احزاباً تتفق على الوسيلة، وتختلف في البرامج والرؤى والمناهج، فتحتكم للجماهير، كيما تقرر اختيارها، عبر الوسيلة، وهى ( الديمقراطية) .
قال أبو فِراس الحمداني :
” سيذكرني قومي إذا جَد جدهم.. وفي الليلة الظلماءِ يُفتقد البدرُ” .
رحمة الله تغشاك، الإمام الصادق ، سبط الثائر المهدي، وسلامٌ عليك في عليين.