الضبابية سيدة الموقف
بقلم: لمياء الجيلي
الضبابية التي تسيطر على المشهد السياسي الحالي، وغياب الرؤية الواضحة في كثير من القضايا المصيرية، بالإضافة الى فقدان القدرة على معرفة الاتجاه الصحيح للأحداث، وغياب القراءة الصحيحة للمزاج السياسي لجماهير الشعب السوداني (خاصة الثوار) وما تريده من تغيير، جعل بعض القوى السياسية، بما فيها قادة قوى الكفاح المسلح العائدين لأرض الوطن بعد طول غياب، يبحرون عكس التيار وينادون بما تبغضه جماهير عموم الشعب السوداني وما تعتبره خيانة بينة لدماء الشهداء ولرفاقهم الجرحى وأحبابهم مجهولي المصير (المفقودين).
وكمثال لتلك التصريحات دعوة بعض قادة الجبهة الثورية، والتي كلما تحدثوا في المنابر المختلفة رددوها، للمصالحة مع جماعة الإسلام السياسي وإشراكهم في السلطة. منهم من قالها دون (تجميل أو تذويق) ومنهم من أضفي عليها بعض المساحيق و(الميك آب) فطالب بإشراك الإسلاميين (النضيفين) أو من لم تكن هنالك اتهامات بارتكاب جرائم في مواجهته.. وبتصريحاتهم تلك خصموا من رصيدهم السياسي ومن تعاطف جماهير الشعب السوداني معهم وهم (كثر). يعتقدون أن تصريحاتهم (المشاترة) تٌرضى الملة (الباغية) وتبهج بعضاً من أصحاب المواقف (الرمادية) أو من حرمتهم الثورة من مصالح وامتيازات وكنوز ناولها في زمن (الغفلة) دون وجه حق، وقد يكونوا ظنوا وأن بعض الظن إثم أن حديثهم هذا ينزل برداً وسلاماً على من يحلمون بالعودة الي سدة الحكم من منسوبي النظام البائد. فاستنكر تصريحاتهم هذه من استنكر وتجاوزها أخرون وكان رد لجان المقاومة أقوى وأوضح فأشفى غليل الكثيرين وألقن بعض الساسة دروساً في الوطنية والتجرد والحرص على تحقيق غايات الثورة السودانية في الحرية والسلام والعادلة.. السلام الكامل والشامل والغير منقوص.. الرفض الصريح الذي أعلنته لجان المقاومة في بياناتها التي صدرت مؤخراً، للتعامل مع كل من دعا للتصالح مع الإسلاميين، وهم المغضوب عليهم من الشعب السوداني الذي ينتظر الحكم العادل الذي يعيد لهم حقوقهم المسلوبة ويقتص لضحايا جرائم تلك الفئة ويحقق العدالة دون إبطاء ودون إفلات من العقاب.
وفي مسار اخر مشابه نجد الصراع علي أشده في المشاركة ومن عدمها في مؤسسات مشكوك في شرعيتها أوجدتها اتفاقية سلام جوبا، كمجلس شركاء الفترة الانتقالية والذي نصت عليه المادة (80) بعد تعديل في الوثيقة الدستورية تحوم ظلال كثيرة حول آلية إجازة هذا التعديل ومشروعيتها. فغياب الشفافية وللطريقة التي تم بها إنشاء هذا المجلس أدى الى مزيد من التشظي والصراعات والتي إذا سارت بهذه الوتيرة قد تعيق تنفيذ اتفاقية السلام وقد تهدد استقرار الفترة الانتقالية. ومن إفرازات هذا الصراع سحب ثمانية أجسام الثقة من المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير. أعلنت هذه الأجسام انسحابها في بيان صادر يوم 28 نوفمبر، متهمة فيه جهة باختطاف المجلس المركزي فيما يخص التمثيل في مجلس شركاء الفترة الانتقالية. ومن المتوقع أن تتخذ جهات أو تحالفات سياسية أخرى نفس الموقف.
المخاض العسير التي تمر به البلاد الآن، وتعقد المسار الانتقالي، يتطلب إعادة تشكيل قواعد جديدة للعمل السياسي بإيجاد فاعلين جدد، وإصلاح جذري وحقيقي في المؤسسات الحزبية الحالية وفى منظمات المجتمع المدني. كما يتطلب ذلك العمل على بناء مؤسسات حقيقية ديمقراطية، تطغى فيها روح المؤسسة على الزعامات التاريخية والإدارات المتوارثة عبر السنين. كما يجب العمل، وبجدية تامة، على إيجاد توافق على مضمون حقيقي للتحول الديمقراطي أساسه المواطنة المتساوية، والمشاركة الشعبية الواسعة، وبناء مؤسسات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المستقلة والمبنية على مبادئ الحكم الراشد من سيادة حكم القانون، ومشاركة الجميع في السلطة سواءً كانت بصورة مباشرة أو غير مباشرة باعتبار أن السلطة حق للجميع. فبناءً الدول السودانية علي أساس الحكم الراشد يسهل عملية الإصلاح السياسي من ممارسة سياسية شرعية ورشيدة، وإدارة الدولة بكفاءة تامة وبفعالية تراعي السياق الاجتماعي والثقافي وتمكن من تمثيل كل مكونات الشعب السوداني وعكس رؤاهم واحتياجاتهم في كل مستويات الحكم بشفافية تامة وأعمال مبدأ المساءلة وتفعيل آليات المحاسبة والمراقبة. كما يتطلب ذلك إصلاح القطاع الأمني من شرطة وجيش وأمن وغيره من قوات، ويتطلب أيضاً أيلولة شركات ذلك القطاع الي وزارة المالية ـ كما يتطلب أيضاً محاربة الفساد وإعادة المؤسسات الرقابية التي ألغاها النظام البائد كالنقل الميكانيكي والمخازن والمهمات، وضمان استقلالية المراجع العام وإخضاع كل مؤسسات الدولة لرقابته ومتابعته.
الخلافات الحالية داخل التحالفات السياسية، والتي غالبها يدور حول تقاسم (كيكة) السلطة والثروة، تعجل بانهيار هذه التحالفات وبفقدانها بوصلة العمل السياسي السليم، كما أن الطريقة التي تتم بها تصفية الصراعات من وداخل المكونات المعارضة تتنافي مع قيم ثورة ديسمبر المجيدة ومبادئها الراسخة، بل تضرب بأسس العمل السياسي عرض الحائط. فالصراع الحالي (ما ظهر منه وما بطن) يزيد من قلق الشعب السوداني علي مصير ثورته ومستقبل بلاده ويباعد الشقة بينه وبين تلك القيادات السياسية وقد يمتد فقدان الثقة الى الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والعديد من مؤسسات الفترة الانتقالية. واضح جداُ أن الصراع الحالي سيزيد الأمر تعقيداً ويفتح الباب على مصراعيه على خيارات صعبة لا تحمد عقباها، وأول من يجنى ثمار فشلها وحنظل ضياعها هو تلك الكيانات ومؤسساتها سواءً كانت سياسية أو منظمات مجتمع مدني. فاستعجال النتائج ومحاولات الحصول على قدر أكبر من المكاسب الآنية، وبنظرة ذاتية انغلاقيه سيؤدى أكيد في نهاية المطاف بأصحابها الي مصير من سبقوهم في هذا النهج وذلك السلوك.. ففي نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح وستنتصر إرادة الشعب ولا محالة ولو بعد حين.