فخ الدين و(تنميط) الحكام
بقلم: لمياء الجيلي
تداولت وسائل التواصل الاجتماعي والعديد من ووسائل الاعلام المقروء منها والمرئي صُور الدكتور عبد الله حمدوك وهو يؤدى مناسك العُمرة لدى زيارته للملكة العربية السعودية مؤخراً.. تم تداول هذا الحدث أو بالأصح الصور بشكل وجه انتباه الشعب السوداني بعيداً عما تم إنجازه في تلك الزيارة التاريخية. كما قلٌلت من فرص الاحتفاء بما تم التوصل إليه المباحثات من اتفاقات وما تطرقت له من قضايا تهم شعوب البلدين.. ومن أبرز نتائج تلك الزيارة الاتفاق وبالأصح الشروع في إنشاء صندوق استثماري سوداني سعودي في مجالات متعددة الأغراض، كما تم إيداع ثلاثة مليار دولار في حساب هذه الشركة. في اعتقادي، هذه الزيارة عكست التغيير الحقيقي في علاقات السودان الخارجية واستردت له كرامته المسلوبة والمنتهكة بسلوك وتصرفات المسئولين في عهد النظام البائد، التي لم تترك للشعب السوداني مزعة لحم من كثرة (شحدة المسئولين في السابق وتسولهم). فقد أوضح وزير شئون مجلس الوزراء خالد عمر يوسف في تصريحات صحفية أن زيارة رئيس الوزراء ناقشت التعاون المشترك وقضية الأمن في منطقة البحر الأحمر وفرص الاستثمار في السودان في مختلف المجالات وغيرها من القضايا التي تصب في مصلحة البلدين.
الطريقة التي تم بها تداول صورة الدكتور حمدوك وهو يؤدى العُمرة، واحتفاء البعض بهذه الصور في رسائل قصد منها أن تبعث الطمأنينة في نفوس الشعب السوداني أن رئيس وزراء دولتهم يؤدى شعائر الإسلام، وأن ما بدر من علماء السلطان من انتقاد وتشكيك في مدى تدينه من عدمه، لا أساس له من الصحة، متناسين أن هذه الثورة ثورة تغيير.. ثورة نادت بالعدالة وبناء سودان تتأسس فيه الحقوق المتساوية بناءً على المواطنة وليس على أساس ديني أو عرقي أو أثنى. وبما أن السودان دولة متعددة الديانات والأعراق والسُحنات واللًغات، مما يعنى أن للجميع الحق المتساوي والفرص المتساوية للمنافسة على حكم السودان، وإدارة الشأن العام، بغض النظر عن دينهم أو أي معيار آخر. فديانة أو معتقد من يدير أو تدير شئون البلاد لا تعنينا من قريب أو من بعيد.. ولا هي تقربنا منه/ا أو تبعدنا منه/ه، كما أنها ليس واحداً من المعايير التي يتم على أساسها تولي الوظيفة العامةـ ولا معيار لمدى قدرته/ها على القيام بهذه المهام بكفاءة وبإخلاص وأمانة.
اتفهم دوافع كثير من الذين نشطوا في تدول صور الدكتور عبد الله حمدوك وهو يؤدى العُمرة أو يُصلى.. باعتبار أن الثورة المضادة تحاول النيل من قادة الفترة الانتقالية بالتشكيك في معتقداتهم ومدى قربهم أو بعدهم من الله.. وفي تقديري أنهم وقعوا في فخ رافضي السير نحو الديمقراطية وبناء الدولة المدنية، الدولة التي يتساوى فيها المواطنين في الحقوق والواجبات، والتي تمنع أن يتم التمييز تجاه أي مواطن/ة بسبب دينه أو نوعه أو عرقه أو أصله الاجتماعي أو الثقافي.. فالقوى الرجعية تريد تثبيت الصورة النمطية للحاكم الذي يستمد سلطته من خلال إطار ديني أو مذهبي يباركه له/ها علماء السلطان، وما حولهم من قوى ظلامية ورجعية. تناسي من وقعوا في هذا الفخ، أن تجارب الوطن مع أولئك الحكام الذين يدعون الورع والتدين مريرة، فقد أذاق كثير منهم الشعب من العذاب ما لا يحتمل ومن الذلة والمهانة والجوع والمسغبة ما لا يطاق. تنميط الحكام ومحاولة تكريس العلاقة بين الدولة والدين بفرض نظرية الحاكم المتدين تتنافي مع التغيير وما نادت به الثورة من حرية وعدالة.. فالدولة المدنية الديمقراطية التي تنشدها القوى الثورية دولة مؤسسات تمارس الحياد فيما يتعلق بتدين أو عدم تدين مواطنيها.، وهذا ليس من شأنها، فهي تقف على مسافة واحدة من كل الأديان، ولا تميز بين مواطنيها بسب دينهم أو عرقهم..
السير على هذا الدرب الذي يكون معنى بمعايير (عباءة الدين) و (علامة الصلاة) أكثر من اهتمامه بمعايير الكفاءة والمواطنة الصالحة يُضعف فُرص تحقيق المواطنة الحقيقية ويضع العراقيل أمام تولى من هم مواطنين سودانيين غير مسلمين مناصب قيادية أو إدارية بالمعيار الذي يُروج له من يُهللون ويطربون لعُمرة حاكم أو صلاته. بل لا تمكننا من اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب بناً على كفاءته وقدراته ومؤهلاته التي تطلبها الوظيفة العامة.
التمييز المبنى على أساس الدين، والذي ظل يمارس منذ الاستقلال، كان واحداً من الأسباب التي أدت الى تدنى إحساس المواطنة لدي الكثير من أبناء وبنات الشعب السوداني، بل ساهم في تعميق إحساس مرير بالظلم والقهر زاد من الشقة بين أبناء وبنات الوطن الواحد، فنشبت نزاعات وحروب بسبب هذا التمييز الذي كرس السلطة لمن ينتمون لدين واحد، حتى لو كانوا يتبعونه نفاقاً أو إرضاءً لمن حولهم، وهم بعيدين عن جوهر الأديان وقيمها.. من هم يكتفون بمظاهر التدين وبعباءته التي يفصلونها على مقاسهم، ويحرمون الآخرين منها لأسباب قد تكون بعيدة عن الدين تماماً.
يجب أن ننتبه الى أهمية دور الإعلام سواءً كان اعلام تقليدي أو اعلام رقمي حديث في التأسيس لبناء الدولة المدنية التي يحكمها دستور يتراضى عليها غالبية المواطنين/ات، وتنظمه قوانين تحترم وتضمن الحريات الفردية، كما تحترم وتراعى حريات كافة مكونات المجتمع. وهذا الدور المطلوب من الاعلام يحتم عليه أن يكون أكثر حساسية في تناول بعض الصور والموضوعات بحيث يتجنب التنميط والتمييز وإثارة الكراهية الدينية والعرقية، خاصة في السودان حيث تم مزج وخلط المكونات الدينية والعرقية بصورة أحادية أفرزت ثقافة تمييزية استعلائية كادت أن تمزق الوطن وتبعثره، وحرمتنا من جزء عزيز آثر أبناؤه وبناته بناء دولتهم التي يُريدونها.
ويجب ألا يتوجس أياً من أبناء وبنات هذا الوطن العزيز من قيام الدولة المدنية الديمقراطية، فهذه الدولة صمام الأمان لوحدة البلاد ولاستقرار ونماء الوطن. فالدولة المدنية تضمن حقوق متساوية لكافة مكونات المجتمع، وتحترم حرية الفكر والعقيدة والضمير، وحرية ممارسة الشعائر الدينية وبناء أماكن العبادة وتعميرها.. مما يقفل الباب أما سياسة نبذ الآخر أو إقصائه من فضاءات الحياة العامة والسياسية.