الثلاثاء, أكتوبر 15, 2024
مقالات

الثقافة المدنية بين قلع النحل وكبكابية..!

بقلم: مرتضى الغالي

الحكومة المدنية ومدنية الدولة منظومة ترتبط بالثقافة الشعبية ارتباطاً لازماً فالدولة المدنية لا تنشأ بفراغ أو بمجرد إعلان دستوري ربما يتحقق بذلك من باب الإشهار القانوني والتوصيف السياسي ولكنها لا يمكن أن تقوم في المشهد الواقعي على فراغ وبغير اعتبار لمواطني الدولة الذين يمثلون القاعدة الشعبية التي تنهض عليها الدولة المدنية بكل محمولاتها من الحقوق والواجبات..!..
بعض الدول تنشئ مؤسسات للثقافة الشعبية تكون جزءاً من مؤسسات الدولة، وفي بعض الدول تنهض منظمات المجتمع المدني (والأحزاب السياسية في بعض الأحوال) بواجب نشر الثقافة المدنية في أوساط المجتمع وبين جميع فئاته نساءً ورجالاً؛ ويشمل هذا التثقيف الذين فاتهم قطار التعليم وما يُسمى (الفاقد التربوي) في إشارة للذين تساقطوا بين مراحل التعليم الأولى بسبب الفقر أو العجز عن الإيفاء بالمطلوبات الأكاديمية للمراحل اللاحقة..وبهذا المعنى فإن الثقافة الشعبية لا تقتصر فقط على الأميين أو الذين تلقوا درجات دنيا من التعليم أو من الثقافة بل إن المتعلمين من أصحاب الدرجات العليا في العلم الأكاديمي والمهني والتخصصي أنفسهم يحتاجون كذلك للثقافة المدنية وما أصبح يمثل منظومة كاملة للتعليم المدني (Civic Education) الذي أصبح يمثل رافداً لا يمكن إغفاله في الدول الحيّة لما ينطوي عليه من أهمية لا يصلح المواطن إن يكون مواطناً صالحاً نافعاً وناشطاً في مجتمعه إذا غابت عنه هذه المعرفة الخاصة بالتعليم المدني اكتفاء بالمناهج الدراسية في شتى العلوم والمعارف..! ..!
قد يرى البعض أن ما يُعرف بمؤسسات الثقافة الشعبية هي أمر أخر لا يتصل بما نعنيه بالثقافة المدنية وان تقاطعت بين هاتين الآليتين المناهج والمقاصد.. ولكن نحن في السودان وفي هذه المرحلة الحاضرة نجد أنفسنا في حاجة ملحّة وعاجلة للاهتمام بهذا البُعد الذي يتعلق بتأهيل الشعب في كل قطاعاته على الحياة المدنية التي تقوم على الفهم الكامل والشامل لماهية الدولة المدنية، ودور المواطنين فيها؛ واجباتهم وحقوقهم وما يجب عليهم فعله وما ينبغي عليهم تفاديه أو الإقلاع عنه. ويجب لفت النظر بقوة إلى أن غياب الثقافة المدنية يقع مباشرة في مصلحة وأهداف القطاعات التي المُتربصّة بالديمقراطية والداعية إلى (عسكرة الدولة) وجرّها إلى نوع من الحكم الشمولي..حتى وان اتخذ أسماء مُضلّله مثل الجمهورية الرئاسية..!! فهذه حالة أو منظومة من الحكم قد تصلح في بعض الدول المتقدّمة ذات التقاليد الديمقراطية الراسخة، والتي قطعت أشواطاً واسعة من ثبات مؤسسات الحكم فيها، ووجود الكوابح الدستورية والقانونية التي تمنع تحوّل النظام الرئاسي إلى استبداد وانفراد بالقرار وقمع الرأي الأخر والتغوّل على صلاحية المؤسسات، والتحكّم في حركة الجماهير والإغراق في النهج الذي يخدم فئات اجتماعية بعينها دون أخرى، وتعطيل قاعد العدالة الاجتماعية..!! فلا ينبغي علينا في السودان باعتبارنا من دول العالم الثالث أو العالم (تحت النامي) أن نشير إلى نماذج فرنسا وغيرها للترويج للأنظمة الرئاسية (بديلاً للنظام البرلماني)..فالنظام الرئاسي هناك يخضع للمساءلة من أجهزة رقابية عديدة قوية الشكيمة على رأسها البرلمان والمحكمة الدستورية الفاعلة التي تمنع تعدي سلطة مهما علا شأنها على صلاحيات السلطات الأخرى في الدولة..!!
ويضاف إلى ذلك أن الرسوخ الاقتصادي والقاعدة الصلدة لحقوق المواطنين في الحصول على الخدمات من صحة وتعليم وسكن وتوظيف وحق المشاركة العامة والانتخاب..الخ مما يجعل هامش أضرار التغوّل على المجتمع المدني والجماهير والسكان ضئيلاً للغاية..وكل هذه المعطيات تكاد تكون مفقودة أو بالغة الضآلة في العالم الثالث..ويمكن النظر إلى الحالة السودانية تأكيداً على ذلك وما يواجهه المواطنون من صعوبة في الحصول على معظم؛ بل جميع هذه الحقوق وما يرافقها من خدمات هي من بديهيات حقوق المواطنة وحقوق الشعب على دولته ونظامه السياسي..!
لقد قطع العالم بتجاربه السياسية والاجتماعية شوطاً بعيداً في مجال حقوق الإنسان، وبجانب الحقوق السياسية والثقافية هناك الحقوق الاقتصادية التي لا يمكن في غيابها تصوّر جدوى الحقوق السياسية والمدنية الأخرى؛ فكيف يستطيع الجائع العاري المريض الذي يفتقر للغذاء والكساء والصحة والعلاج وماء الشرب النظيف أن يتمتع بمزايا حرية التنقل والسفر على سبيل المثال..!! أو أن يجد الوقت والإمكانية ليشارك في التصويت في الانتخابات دعك من يكون بين من يترشّحون للتمثيل فيها؟!!
لقد ذهبت الحقوق التي أقرّتها المواثيق العالمية إلى آفاق جديدة بتقرير حقوق الأفراد والمجتمعات في التعبير عن لغاتها وثقافاتها، وعن حرية الاعتقاد والتنظيم والتعبير..وكل هذه الحقوق من الجبهات التي تواجه إنكاراً مُضمراً في مجتمعات العالم النامي وبينها السودان؛ بسبب عوائق وتفسيرات اجتماعية ودينية وثقافية، و(منافرات ومناقرات) تتخذ أحياناً شكلاً من إشكال إدّعاء الخصوصية أو التباهي الإثني العرقي بكل ما يمكن أن يشتمل عليه من عنصرية سافرة أو مُستترة… كما أن هناك جماعات ترى إن هوية المجتمع تقوم فقط على الهوية الدينية والمذهبية ولا مجال لأي اعتبارات أخرى؛ وعليه يجري ترتيب الحقوق على هذا التميّز الخاطئ مع استخدام مؤسسات الدولة القضائية والدستورية والاقتصادية والإعلامية والثقافية لترسيخ هذا التصوّر الكارثي الذي يقود لا محالة إلى مخاطر عاصفة تهدم قواعد الدولة المدنية من الأساس..!!
العبرة في خاتمة المطاف؛ كيف يشعر مواطن سوداني في (قلع النحل) وأخر في (كبكابية) بالتجاوب حول نيل كل منهما حقوقه المدنية بالتماثل على اختلاف البيئة الطبيعية والموقع والمزاج وسبل كسب العيش..؟!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *